2011/12/19

قصة ليست للأطفال (1)    

كان ياما كان في قديم الزمان ، و ربما أقرب من ذلك قليلاً و ربما كثيراً. فذلك يعتمد على زمن الراوي، فمن رواها غداً سيقول حدث بالأمس، و من سيرويها بعد سنوات أ وعقود فسيقول حدث في قديم الزمان، أما من قص ذلك بعد ألف عام فسُيحدث بأنه حدث في غابر الأزمان.
كان هناك قبطان يقود سفينة صيد، يجوب بها البحار، يصطاد هنا وهناك. يُسخر لخدمته على ظهر تلك السفينة صيادين من الفقراء. يقال أنهم ما كانوا فقراء، بل كانوا ملاك أعظم سفينة صيد في البحر. و كما تُعاكس الأنواء الصياد عاكستهم الحياة، فصاروا بين ليلة وضحاها سخرة على السفينة التي كانوا يملكون. إذ يقال أنه وبعدما تلبدت سماء حياتهم بسحب سوداء من الفقر و الحظ العاثر، اضطرتهم ظروفهم لبيع سفينتهم تلك، لرجل لا يفقه من أخلاق البحر شيئاً. اشتراها منهم بحفنة من عملة ذاك الزمان، لم تكن كافية بأي حال لإصلاح حال إيٍ منهم. ليجدوا أنفسهم على ظهر سفينتهم من جديد، ليس كملاك لها، بل كعمال يكدون من الفجر حتى مغيب الشمس مقابل حفنة من دراهم لا تُغني و لا تُشبع من جوع. القبطان لم يكن يمتلك من أخلاق البحر شيئاً، أما هم كانوا يعرفون هذه الأخلاق جيداً، إذ لم يبتدعوها و لم يدعوها ، بل رافقتهم منذ الصغر، لا يستطيعون التخلص منها أو التخلي عنها، بل إنهم يحرصون عليها كل الحرص حتى يورثوها لأبنائهم.
في البداية و جدوا أنفسهم على طرفي نقيض مع قبطانهم الجديد الذي لا يعرفونه، و لا يعرفهم، و لا يعرف من أخلاقهم شيئاً. حتى إنه كان يختم سيل شتائمه اليومي بسؤالهم: من أنتم؟
كانوا يشمئزون من ذلك كل الاشمئزاز، و يمتعضون كل الامتعاض. لم يعترض منهم سوى الشبان الذين لم تأسرهم أكبادهم اتجاه أبنائهم بعد، و كان هؤلاء يلقون العقاب في ذات اليوم الذي فيه يعترضون. تصاعد العقاب من الشتائم إلى قطع القوت عنهم إلى منعهم الدراهم الزهيدة التي يتقاضون. فمن لم يردعه ذلك عن مقارعة القبطان، كان مصيره الرمي في البحر ليعود إلى اليابسة سباحةً. و هناك من تحدث عن شباب صعدوا السفينة فلم تطأ أقدامهم الأرض بعد ذلك أبداً. هذا عن الشباب، أما كبار السن فكانوا يكتفون بالهمهمات و الهمسات فيما بينهم. الأمر الذي توقفوا عنه حينما أدركوا إن أذني القبطان تسمع كل شيء، و يداه يمكن أن تبطش بأي أحد مهما صغُر ذنبه.
كانوا يصعدون ظهر السفينة قبل صياح الديك، فلا تعود بهم إلا و أهل المدينة قد ناموا. فكانوا بمرور الزمن ينسلخون عن مدينتهم شيئاً فشيئاً. ماعادوا يعرفون منها سوى ذلك الميناء البائس، و تلك الطرق المؤدية إلى بيوتهم. لقد قطعهم عن مدينتهم، حرمهم رؤية اطفالهم يكبرون، تحولوا إلى تروس تدور مكانها، فمن توقف عن الدوران ركله ليسقط في قعر البحر.تروس تدور داخل آلة القبطان، بعيداً عن دائرة الفعل.
كان يمكن أن يستمر بهم الحال إلى الأبد. لولا بصيص من نور يلمع في السماء، لم يستشعره القبطان أبداً.
ذات ربيع سمعوا خبراً جعلهم يتعاضدون لأول مرة في غفلة من القبطان، سمع القبطان الخبر، لكنه لم يظن علاقة للربيع بالبحر فلم يهتم، تعاضد الفقراء فرفعوا أياديهم إلى السماء في ذات اللحظة، سائلين المدد... انتبه القبطان... أدار الدفة بعنف لعلهم يسقطون، لكن أقدامهم كانت ثابتة وأكتافهم كانت متراصة. خرج عليهم بسوطه الطويل، ضربهم بشدة، لكن ما من أحد منهم تزحزح من مكانه، و ما من أحد توقف عن طلب المدد.
هطل المطر بشدة، اكفهر وجه القبطان، أطلق عليهم كلابه، و ما من أحد منهم يتزحزح من مكانه. كانت الكلاب تهاجمهم بشدة، و كان اللحم يتناثر من أجسادهم على سطح السفينة، و ما من أحد توقف عن طلب المدد.
افتعل القبطان ثقباً في السفينة لعلها تغرق بهم، لكن حيلته لم تُفلح، فما كاد الماء يتسرب للسفينة حتى تدحرجت إحدى القطع البشرية المتناثرة، و أغلقت الثقب مانعة تسرب المزيد من الماء. بحنق سحب القبطان تلك القطعة من الثقب، و رمى بها في البحر، لكن قطعة أخرى تدحرجت في الثقب و أغلقته. واصل القبطان ذات الفعل بصورة هستيرية، حتى نال منه التعب و أُنهك ، و سقط مغشياً عليه.
دوت الزغاريد في كل مكان، و عم البِشر جميع الوجوه، و نام كل صياد تلك الليلة بقدر أكبر من الأحلام، و كم أكثر من الأمنيات. لكن أحداً منهم لم يفكر تلك اللحظة، في سفينتهم وهي في عرض البحر تتقاذفها الأمواج.
في اليوم التالي و ربما اليوم الذي يليه و ربما بعد أيام، أدركوا وجوب تدارس أمرهم، فالنقود التي معهم تكاد تنفذ، و ربما نفذت عند البعض.التقوا في ساحة المدينة ، حاولوا الوصول إلى رأي يوحدهم أو حتى كلمة تجمعهم، لم يكن ذلك بالسهل عليهم، فتذكروا السهولة التي أجمعوا فيها على رفع أيديهم للسماء. بعضهم تذكر كيف كان القبطان يتخذ قرارات قهرهم و ذلهم بكل سهولة. اجتمعوا طويلاً ثم تفرقوا...اجتمعوا ثم تفرقوا.... اجتمعوا فتفرقوا... كان منهم من يعرف ما سيفعل بعد فض الاجتماع أكثر مما يعرف عما يفيدهم في تجمعهم. كان مجرد تجمعهم و تحاورهم يراه الناظر عن بعد شيئاً عظيماً ، أما هم فكانوا دائمي التوجس خيفة من الآتي. البعض تحدث عن تدخل الصيادين من غير أصحاب السفينة، و البعض تحدث عن أجندات رُسمت من أناس من خارج المدينة.
تواصلوا الحيص بيص حتى جاءهم رجل ذات صباح، لم يكن غريباً عنهم، كان أحد فقراء السفينة، قال لهم دعونا نعمل، دعونا نذهب إلى الشاطئ لنرى ماحل بالسفينة. نظروا إلى بعضهم متسائلين الغفلة التي هم فيها، والتي شغلتهم عن سفينتهم، مصدر رزقهم و سر حياتهم. جمعوا بعضهم و اتجهوا الى الشاطئ لا يلوون على شئ، عندما وصلوا إلى الشاطئ رأوا سفينتهم كومة من الأخشاب تتلاطمها الأمواج. نظروا إلى بعضهم، ابتسم كل منهم للآخر، شمروا عن سواعدهم، و اتجهوا الى السفينة المدمرة لإعادة بناءها... يعرفون أن ذلك يحتاج الكثير من الوقت والجهد لكنهم أدركوا إن البداية يجب أن تكون اليوم.... قبل أن يولد قبطان آخر.

ليست هناك تعليقات: