2013/10/10

عُمينا يوم البصر العالمي

يحتفل العالم كل ثاني خميس من شهر أكتوبر بيوم البصر العالمي، تُشحذ الهمم و تُشد العزائم. كل يسعى لجعل أمته أفضل إبصاراً. أما في بلادنا فأمرنا مختلف يجعلنا نشذ، فلا ندعو أطباء العيون و علمائها لأي سعي لتحسين أبصارنا في الوقت الحالي، فأدعى من ذلك أن نبحث عن بصيرتنا.
كما هو الحال في الظلمة حيث تتشابه الأشياء، أو تُمسي مجرد أشباح لا نستطيع التمييز بينها. عندما تنذهب شيرتنا و نفقد بصيرتنا فإننا سنقع في التشخيص الخاطئ للأشخاص و للأمور، و يصيبنا التيه، نفقد الإبصار و البصيرة لنصبح أسرى شيئين اثنين؛ الخوف من شيء ما و حب الوطن الذي لا نستطيع منه فراراً، الأول يُبعدنا عن رؤية أي شيء إيجابي و الثاني يبعدنا عن تبين السلبيات، لنجد أنفسنا نتصرف تبعاً لما يمليه علينا هذين الشعورين دون بصيرة بواقع الحال تنقذنا مما نحن فيه، لنتبين ما هو مستقيم وما هو منحرف، ما هو عدل وما هو ظلم، وما هو حق وما هو باطل.
(أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم ) الملك22.

إنّ الذي يمشي سوياً ببصره وبصيرته أهدى من المنكب على وجهه الذي لا ينتفع ببصره في المشي ولا ببصيرته، لأن السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين وإنما إلى بصيرة. علينا أن نهتدي لبصيرتنا قبل أن تتسلل إليها التراكوما فتُعميها كما أعمت أبصارنا. هل سنستدل على بصيرتنا و نُجد في البحث عنها أم سنظل نردد في خوف و حب و قلة حيلة "االبصيرة يجيبها ربك".

2013/10/07

الراوي الذي خان

قال الراوي: كان يا ما كان في قديم الزمان، رجل مُنعم له أرض واسعة، لم يأتي يوماً بمساح يقيسها بالفدان، و لم يُفكر يوماً بحسابها بالهكتار. كانت تُدر عليه خير وفير و تأتيه بالمال الكثير. مما جعل الحساد يذهبون إلى أن رزقه لا تأكله النيران، و لن يقهره سلطان، و لن يدور به الزمان.. مات الرجل و ترك وراءه أربعة أو خمسة من الأبناء. لم يختلف الأخوة في قسمة المال، لكن الأرض كانت محل خلاف، فشرقها كان فيه كروم العنب و الزيتون، و جنوبها كان فيه بئر المياه التي لا تجف، و في غربها كان هناك غابة كثيفة يحتطبون منها طوال العام، و شمال الأرض كان جنان وارفة الظلال لا تكاد تذبل لها زهرة إلا لتُزهر أخرى. احتاروا كيف يقتسمون الأرض و كلهم راضٍ. تدخل بينهم أهل الرأي، ثم أهل الحل و العقد، ثم قضاة المدينة، تدخل حتى كبير القضاة. لم يصل أحد منهم لحل، وظل الأخوة في حيرة لا تُفضي لشيء. تناقشوا و تحاوروا قليلاً ، لكنهم تأمروا كثيراً دون الوصول لحل. اختلفت بعد ذلك الروايات، و إن كان ما رسخ منها في أذهان الناس، أن الأخوة وصلوا إلى حل كان مرضٍ لهم جميعاً، كان الحل  مرضٍ لأي منهم لأنه كان يُغيض كل الآخرين. اتفقوا على إحراق الأرض و ردم بئرها، فتساوت كل جهاتها في جردائها، و تشابهت كلها في لونها الرمادي القاتم. تساوت الأرض فسهلت عليهم قسمتها. و عمد كل منهم إلى المال الذي يملك فابتنى له قصراً في جنته رمادية اللون. عندما نهضوا في الصباح لم يجدوا الكروم التي منها يأكلون، و البئر التي منها يشربون و الغابة التي كانوا منها يحتطبون، و الحدائق الغناء التي كانوا بها يستظلون. حينها أدركوا أنهم كانوا في ضلالهم يعمهون... إلى هنا و أقفل الحكواتي كتابه، مبتسماً لمستمعيه ابتسامة صفراء، ثم نظر إلى صاحب المقهى و قمزه قمزة لا يمكن إلا أن تكون ذات مغزى.( المغزى ليس في بطن الشاعر فلا تسألوه)
حمد الرقعي

ترهلات وطن

صار يعتريه الشعور بالترهل منذ عقدين و نيف من الزمان، كان هذا الشعور يرتاده بين الفينة و الأخرى. لكن توالي السنون بذات الرتابة، جعل شعوره أكثر عمقاً، و جرحه أشد نزفاً و إيلاماً. تمادى ترهله حتى دحت بطنه، فجاوز الأمر الشعور، ليصبح محسوساً ملموساً منظوراً مسموعاً مشموماً. يتذوق العذابات، و يشتم الآهات و يجتر في بَلادة بقايا كرامة حدثه عنها الأجداد ذات يوم. فيما تلى من السنون، تمرد الأمر و خرج من بين يديه ليجاوز شعوره الداخلي الخفي، فيبان للجميع واقعاً يلحظه كل من يلتقية، متمثلاً في كرش هلامية متقيحة ذات طبقات يطبق بعضها على بعض، و كأنها تحاول الإمساك بما علق بينها من قذى، تصدر عنها رائحة نتنة، لن تتعرف حقيقتها إلا بعد تمكنها من صدرك، تتمادى في تمددها فتطال ما بعد الحدود و ما وراء البحار.
فكر فقرر فنفذ، فكر فيما فات و فيما هو آت، قرر أن يغير الثبات بالثبات، ثبات هذا الترهل صار مغلقاً له و للآخرين، لذلك قرر الثبات في وجه المزيد من ترهله، قرر محاربته، فصمد و صابر و هو يدافع الترهل، رغم تترع المزيد من القذى، و تفتق العديد من الجروح، و اختناق المزيد من الأنفاس بالرائحة النتنة. تخلص مما فيه من ترهل ، و بدأ نظاماً جديداً تعلقت به الكثير من الآمال. لكن حياة جديدة بلا ترهل تحتاج نظاماً حياتياً جديداً، و هذا لن بتيسر إلا بوصفة جديدة،  كان لابد من تطبيق الوصفة بدقة متناهية، لينجح النظام الجديد. أحضر كل مكونات الوصفة، ليضع المقدار المطلوب من كل منها. لكن و في غفلة منه، اعترت جسده رجفة، فسقط الميزان و اهتز الإناء و اندلقت كل المكونات فيه بلا أدنى حساب. و جد نفسه في موضع عجيب و وضع غريب، ينظر إلى إناءه و قد فاض بخليط غريب. ليس مجرد سلطة، بل هو هردميسة لا تُفضي لشيء.
بدأ الترهل يعوده من جديد، لكنه هذه المرة جاوز البطن ليشمل غيرها من الأعضاء. حتى تلك التي لم تترهل أصابها الوهن، نتيجة ترهل ما جاورها من أعضاء. في لحظات ضيقه، نسى ترهله القديم، و تناسى ترهله الجديد، فما عاد يذكر سوى معركته الفاصلة التي هزم فيها ذلك الترهل القديم.
الذين يتابعون حاله من بعيد، فيتمتعون بصورة بانورامية أوضح و أعم لما هو فيه، يؤكدون أن ترهله الجديد، و رغم توسعه و انتشاره، ليس له ذات الرائحة النتنة.

احذروا القاتل الصامت

يحتفل العالم كل عام بهذا اليوم- السابع من أبريل- الذي يوافق ذكرى تأسيس منظمة الصحة العالمية World Health Organization(WHO)  عام 1948. و في كل عام يتم التركيز على موضوع معين مثير للقلق على المستوى العالمي، حيث يتم التوعية به و طرق علاجه. و في هذا العام 2013 ينصب الاهتمام بمناسبة يوم الصحة العالمي على القاتل الصامت...
هو القاتل الصامت بالفعل، لا يحس به ثلثي مرضاه و هو يعيث فتكاً بأعضائهم الداخلية يوماً بعد يوم. يختار الأعضاء الحساسة من الجسد  كالدماغ و الكلى و القلب أو العين. و لن يكتشف مرضاه اعتداء هذا القاتل الصامت على أجسادهم إلا بعد أن يسقطوا صرعى لسكتة دماغية أو جلطة قلبية أو انهيار وظائف الكلى، ليتسبب في وفاة 9 ملايين شخص كل عام ... إنه مرض ارتفاع ضغط الدم.
يشير آخر تقرير لمنظمة الصحة العالمية، والذي يتضمن بيانات من 194 دولة، إلى أن شخصاً من بين كل ثلاثة أشخاص في العالم مصاب بارتفاع ضغط الدم، تزداد هذه النسبة مع التقدم في العمر، حيث تبدأ بواحد من كل عشرة أشخاص في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم وترتفع إلى خمسة من كل عشرة أشخاص في الخمسينات من أعمارهم.
القاتل الصامت هو السبب وراء أكثر من 90% من النوبات القلبية و أكثر من 20 % من السكتات الدماغية. و يؤدي ارتفاع الضغط بمرور الزمن إذا لم يعالج إلى الفشل الكلوي و يمكن أن يسبب العمى.
جميع الدراسات و الأبحاث تؤكد إمكانية الوقاية والعلاج من ارتفاع ضغط الدم. و قد أثمر النجاح في الوقاية والعلاج من هذا المرض، و تجنب عوامل خطر أخرى مسببة لأمراض القلب والأوعية الدموية عن خفض عدد الوفيات الناجمة عن أمراض القلب.
ففي الدول المتقدمة ومع التشخيص المبكر والعلاج المنخفض التكاليف قل ارتفاع ضغط الدم الحاد مما أدى إلى إقلال الوفيات.
أما في دول العالم الثالث  فإن أكثر من 40% من البالغين في العديد من البلدان يعانون من ارتفاع ضغط الدم، ومعظمهم يبقى بلا تشخيص على الرغم من إمكانية معالجة معظم الحالات بتكاليف منخفضة مما يقلل من خطر الوفاة.
يمكن الحد من مخاطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم عن طريق: الإقلال من تناول الملح – إتباع نظام غذائي متوازن- تجنب التدخين و  تناول الكحول - ممارسة النشاط البدني بانتظام - الحفاظ على الوزن و تجنب السمنة.
هذه السبل تبدو محدودة في تعدادها بسيطة عند سردها، لكن تطبيقها لا زال يعجز عنه عدد غير قليل. فمازال يعاني 2.3 مليار من البشر من زيادة الوزن و قرابة المليون يعانون السمنة و آثارها السيئة و على رأسها ارتفاع ضغط الدم.
في عالمنا العربي ما زال التخلص من سمنتنا و ترهل أجسادنا يُعجزنا فثالث معدلات السمنة في العالم نجده في المملكة العربية السعودية بنسبة 35.6 من سكانها بينما تأتي الإمارات في المرتبة الرابعة بنسبة 33.7 % و في المرتبة السادسة نجد البحرين بنسبة 28.9 و مصر و الكويت وقطر نجدها ضمن متصدري قائمة السمنة في العالم .
الدراسات العلمية أثبتت كذلك أن الإفراط في تناول ملح الطعام يتسبب في وفاة ما يقرب من 2.3 مليون شخص كل عام، و أظهرت إحدى الدراسات  أن نسبة 15 في المائة من وفيات النوبات القلبية و السكتات الدماغية وغيرها من أمراض القلب كانت بسبب الإفراط في تناول ملح الطعام و كان ارتفاع الضغط هو الوسيط الدائم بين الإكثار من تناول الملح و حدوث الأضرار بالقلب و الدماغ.
 معظم مجتمعاتنا العربية ما زالت تعتاد استعمال كميات زائدة من الملح في طعامها اليومي. ففي الإمارات نجد الفرد يستهلك يومياً غرامين من الملح أكثر مما هو موصى به دولياً مما يزيد من خطر ارتفاع ضغط الدم.
كذلك يظل التدخين أحد أهم الأسباب لتصلب الشرايين و ارتفاع ضغط الدم، و عالمنا العربي ليس ببعيد عن صدارة قائمة ممارسي هذه العادة. فوفقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية حول معدلات التدخين والدول الأكثر تدخيناً في العالم, تأتي سوريا ولبنان في المركزين الخامس والسادس عالمياً حيث أن الإحصائيات تقول أن 62% من الرجال في سوريا مدخنون وتليها لبنان بنسبة 61% ، بينما تحتل نساء لبنان وفق بعض الإحصائيات العالمية المركز الأول عالمياً ضمن أكثر الدول تدخيناً بين النساء حيث تصل نسبة النساء المدخنات في لبنان إلى 57.1%.
تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن قرابة مليوني شخص يلقون حتفهم كل عام بما يعادل 6 % من مجموع الوفيات في العالم بسبب قلة ممارسة النشاط الرياضي.
وترى المنظمة أن الأشخاص الذين يمارسون نشاطا رياضياً منتظماً يحافظون على جسم سليم كما تنخفض لديهم نسبة الإصابة بأمراض الشرايين التاجية و ارتفاع ضغط الدم الشرياني والأزمات الدماغية.
و تجمع العديد من الدراسات أن 15 دقيقة من الرياضة المكثفة و بشكل يومي, كافية للوقاية من المخاطر الصحية, و الحصول على حد أدنى من اللياقة المطلوبة, و ذلك بافتراض وجود نشاط يومي مستمر, وهوايات تتطلب مجهود جسدي.
بينما أوصت بعض البحوث البريطانية العامة بممارسة الرياضة لمدة 150 دقيقة أسبوعيا, و تقسيمها بشكل يومي بواقع 30 دقيقة خمس مرات أسبوعيا, بينما ترى مراكز الوقاية و الحماية من الأمراض أننا بحاجة إلى 30 دقيقة من الرياضة المتوسطة يوميا, من أجل الحصول على الوقاية الكافية من الأمراض.
في مجتمعنا العربي نكاد نقف بكليتنا بعيداً عن هذا الأسلوب الوقائي من الأمراض، ففي إحدى الدراسات تبين أن 91% من العرب لم يفكر أبداً في ممارسة الرياضة بعد إنهائه مراحل الدراسة.
إن الهدف النهائي ليوم الصحة العالمي 2013 هو خفض معدلات الإصابة بالنوبات القلبية و السكتات الدماغية. و تحقيق هذا الهدف النهائي يحتاج لتحقيق العديد من الخطوات كما قررتها منظمة الصحة العالمية و هي:
-         التوعية بمسببات ارتفاع ضغط الدم و مضاعفاته و سبل الوقاية منه.
-         التشجيع على القيام بالفحص الدوري لضغط الدم، و جعل وسائل قياس ضغط الدم في متناول الجميع.
-         تحفيز السلطات الوطنية والمحلية على تهيئة بيئة مؤاتية للسلوك الصحي.
هذه الأهداف نظل قاصرين عن إيفائها في الوقت الحالي في أغلب المناطق العربية، لأنها تعتمد بشكل كبير على وعي المواطن. و الرفع من مستوى الوعي يستلزم جهداً مضاعفاً يكاد يطال كل مؤسسات الدول و كل مكونات المجتمع، من مؤسسات صحية و مؤسسات تعليمية و أدوات إعلامية و حتى المساجد و الجمعيات الأهلية و الخيرية. تكاتف جهود الجميع هو ما سيخلق الوعي لدى الجميع، و هذا الوعي هو الذي سيطلق طاقة الفعل لدينا.

و تستمر رجلة التيه

جنحت بهم سفينتهم، تاهت في شتى البحور أربعين حولاً و حول و حول، رأوا بِحاراً بلون الدم، و دوار يُخرج الجماجم من عمق البحر. سمعوا الحوريات يئنن كالثكالى، رأوا بأم العين القرش يناور مندحراً أمام صغير الإخطبوط. و اصطدمت سفينتهم غير مرة بجزر يلفها الظلام، و تعمها أنتن رائحة تُشم. لم تكن الشمس تًشرق و لم يكن القمر يضيء. سئموا رؤية ما لم تألفه نفس الكريم، فاجتمعت أياديهم ذات يوم، لتضبط الدفة في وجهة واحدة، ليبعدوا سفينتهم عن بحور الضياع. أفلحوا فتوقف التيه لبرهة، فأبحروا في سلام حتى أبصروا منارة قريتهم الهادئة، شمروا عن سواعدهم و أنزلوا خمسة أو ستة قوارب ليقطروا بها السفينة نحو شط الأمان فلا تعبث بها الأنواء، اقتسموا القوارب فيما بينهم، فكانت كل ثلة منهم في قارب، شرعوا في قطر سفينتهم. لكن الآخر استهزأ بقواربهم، فشرع كل قارب يجر السفينة في اتجاه، بعضها متجه نحو الشاطئ و البعض الآخر يحاول سحب السفينة إلى عُمق البحر، بعضها يتجه غرباً، و الآخر شرقاً. لم يكن أحد منهم يسمع الآخر، و لم يكن منهم منصت لصراخ أهل المدينة الواقفين مشدوهين على الشاطئ، تعتريهم الدهشة وهم يسمعون صراخ السفينة من أثر سحبها من كل اتجاه. و حتى هذه اللحظة مازال كل قارب يسحب في اتجاه، دون أن يصغي أحد منهم سمعه للآخر و ما زالت السفينة تئن.
 

2013/03/26



اليوم العالمي للتوحد
د. حمد الرقعي

في العام 2007 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الثاني من أبريل كيوم عالمي للتوحد، بهدف التعريف بـهذا المرض، الذي يطال اليوم 67 مليون شخص يعيشون بيننا، لكن مصابهم ينأ بهم عنا ليعيشوا في وحدة متواصلة يفرضها عليهم التوحد الذي يعانونه.
يتم تشخيص التوحد بناء على سلوك الشخص، لذلك تتعدد أعراض هذا المرض التي تظهر في العادة خلال الثلاث سنوات الأولى من عمر الطفل، و تنتج عن اضطراب عصبي يؤثر على وظائف المخ، تصيب أعراضه الذكور أكثر من الإناث.
يصيب مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي ، فيفضل المريض العزلة و يعاني صعوبة في التواصل البصري و السمعي، فلا يُظهر المصاب بالتوحد أي استجابة عند مخاطبته ليبدو كالأصم رغم أنه سليم السمع.
 و يصعب عليه التعبير عن احتياجاته، و قد يعاني نوبات من الضحك والبكاء دون أسباب واضحة، مع صعوبة في الاختلاط مع الآخرين. و يظهر المصابون بهذا الاضطراب سلوكاً متكرراً بصورة غير طبيعية، كالتصفيق باليدين لفترات طويلة، والتحديق في اليدين ووضعهما أمام العينين، و قد يرتبط بشيء ما بصورة مبالغ قيها، كاللعب بلعبة واحدة طوال الوقت دون محاولة التغيير إلى لعبة أخرى، فنجده مثلاً يقوم بتحريك طبق بشكل دوراني لفترة طويلة دون توقف. و بشكل عام نجد لدى المصاب ممانعة دائمة للتغيير.
و هناك العديد من المؤشرات التي تستلزم انتباه الأهل و طلب الاستشارة الطبية عند ملاحظتها، كعدم ابتسام الطفل حتى شهره السادس، و عدم تبادل الأصوات و تعابير الوجه حتى 9 أشهر، و عدم المناغاة بعمر 12 شهر، و عدم الكلام بعمر 16 شهر. و عدم الرد عند مناداته باسمه في عمر العشرة أشهر.
حتى هذه اللحظة لم يتم التعرف لأسباب التوحد، رغم أن معظم البحوث تشير إلى وجود عامل جيني له تأثير مباشر في الإصابة بهذا المرض، حيث تزداد نسبة الإصابة بين التوائم المتطابقة  أكثر من حدوثها لدى التوائم غير المتطابقة.
و لوحظ من خلال العديد من الدراسات تواجد زيادة متسارعة في عدد الأطفال المصابين باضطراب التوحد ، ففي أمريكا كان معدل انتشار التوحد في عام 1970م حالة واحدة بين كل 2500 شخص وفي عام 1999 ارتفع الرقم الى حالة واحدة لكل 285 وفي عام 2007م كان حالة واحدة في كل 150 طفل، و في العام 2009 حالة واحد في كل 91 طفلظ و هي الأن حالة في كل 88 طفل. و يمكن إرجاع هذا الازدياد المضطرد لتطور وسائل التشخيص، و وعي أولياء الأمور بهذا المرض و طلبهم المعونة الطبية، في حين لم يكن يلتفت الأهل لهذه الأعراض في السابق.
في العالم العربي نفتقر لدراسات موسعة لأعداد المصابين بالتوحد. و اعتماداً على بعض الدراسات التي أجريت بالمنطقة العربية، لا نجد اختلافاً كبيراً عن الدراسات العالمية ففي السعودية  أظهرت دراسة نسبة 1% و في الإمارات ارتفعت الإصابة بالمرض من 0.9% إلى 1.1% خلال السنوات الأخيرة. و في مصر يقدر عدد المصابين بالتوحد بعدد 800 ألف مصاب، و إن كانت بعض الدراسات الأخرى ترفع الرقم لأكثر من ذلك.
 يحتاج هؤلاء الأطفال علاجاً طويل الأمد في مراكز متخصصة و بتكلفة كبيرة، لأنه يعتمد على أيدٍ خبيرة، و في معظم الحالات يحتاج كل طفل لمدرب خاص به. الأمر الذي يعجز عنه الأهل بمفردهم  أو الجمعيات الخيرية أو مؤسسات الدولة لوحدها، بل هو أمر يستلزم تظافر جميع الجهود.
و من المهم هنا أن نؤكد أن التشخيص السريع لهذا المرض لاشك يقدم الكثير للطفل، فمما يعيق تحسن المصابين في مجتمعاتنا العربية، أن عدد غير قليل من الأهل يعمدون إلى إخفاء مرض طفلهم و إبقاءه بالمنزل، إما لخجلهم من مواجهة المجتمع بمرض طفلهم، أو لاجتناب تحمل تكلفة العلاج الذي لا يؤمن معظمهم بفعاليته.
إن التوعية بهذا المرض، طبيعته و ضرورة التشخيص السريع، و فعالية العلاجات المتبعة في المراكز المتخصصة، تظل دور هام يجب أن يتحمله كل صاحب قلم أو معتلٍ منبر. لعل ذلك ينير الطريق لعائل فيكون فيه كثير الخير لطفل، ننقذه من وحدتين توحد المرض و توحد تفرضه عليه أسرته بعزله عن مجتمعه.
في الختام أختم بما ختم به بان كي مون رسالته التي وجهها للعالم بمناسبة اليوم العالمي للتوحد " دعونا نواصل العمل جنباً إلى جنب مع الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات طيف التوحد، و لنكن داعمين لهم للتصدي للتحديات التي يواجهونها لنضمن لهم حياة منتجة هي حقهم الطبيعي".
-        أول من استخدم كلمة Autism للدلالة على هذا المرض هو العالم النفسي السويسري إيوجين بلوار Eugen Bleuler  عام 1911 و هي كلمة يونانية تعني "بنفسه".
.
للتواصل hamsam3@hotmail.com

2013/01/01



البحث عن الذاكرة

حمد الرقعي

ها أنت ذا قد طويت مراحل الدراسة الثلاث، الابتدائية فالإعدادية ثم الثانوية، و ربما ألحقتها بمرحلة دراسية أخرى في الحامعة، سنوات و سنوات قضيتها متنقلاً من مدرسة إلى أخرى، عرفت عشرات المدرسين ممن علموك، و عرفت عشرات آخرين ممن لم يدرسوك، عرفت المئات من زملاء الدراسة باسمائهم و عنوان سكنهم، و أصبح العشرات منهم أصدقاء لك فعرفت الكثير من تفاصيل حياتهم. و خلال هذه السنوات طالعت عديد الكتب و سمعت الدرس تلو الآخر و كل منها يحوي معلومات و بيانات لا حد لها. كل ذلك... من أسماء اصدقائك و زملائك و معلميك و ما احتوته الكتب من علوم، و ما فعلته خلال العطلات الصيفية و رحلاتك مع الزملاء و لعبك مع الأصدقاء. كل ذلك يدون كذكريات تصبح جزء من حياتك و سترافقك طيلة العمر، و ربما كان لها دور في قيادة حياتك من خلال ما تتخذه من قرارات.
و ها أنت قد بدأت حياتك العملية أو تستعد لبدئها، و ستلتقي آخرين، زملاء و مدراء و ستواجهك مواقف و مواقف و مواقف سيسجل جلها وربما كلها في الذاكرة. فما مررت به في سابق الأيام و ما تمر به الآن و أنت تقرأ هذه السطور، و ما ستمر به لاحقاً. كل هذا يسجل في الذاكرة في صورة ذكريات لا تمحي تجعل الماضي  حاضراً أبداً. حتى اللحظة التي نعيشها الأن ستغادرنا لنرمي بها في عربة الذكريات، و المستقبل الذي ننتظره دائماً بفارغ الصبر سيصل ذات يوم لنعيشه لحظة بلحظة، و كل لحظة نعيشها ستغادرنا بلا استئذان لتعشش داخل الذاكرة. كل لحظات حياتنا بمرها و حلوها ستعشش داخل الذاكرة و لن تغادرها، و إن حاولنا طردها فلن نجد لذلك سبيلاً.. هذه هي حياتنا ماضٍ و حاضر و مستقبل. الحاضر ها نحن نعيشه و الغد هو المستقبل الذي ننتظره و نتطلع إليه. و لكن ماذا عن الماضي، لقد ولى، لكنه خلف وراءه ذكريات هي الدليل الوحيد على أننا عشنا تلك اللحظات التي صارت من الماضي.
الذاكرة وظيفة حيوية لأنها تخلق التواصل بربطنا بماضينا و تحفظ هذا الماضي وتسترده في حدود فترة زمنية معينة ، لذلك عرفها لالاند بأنها "وظيفة نفسية تسترجع حالة وعيناها في الماضي مع علمنا انها تخص الماضي فقط."
منذ القدم حاول الإنسان التعرف على طبيعة الذاكرة، و كيفية حفظ ذكرياته و استرجاعها. و لطالما تسآل عن الذاكرة، عما إذا كانت شيء مادي، أم هي شيء غير محسوس لا يمكن لليد أن تطاله.
عندما نرجع للوراء، لماضي البحث عن الذاكرة، نجد عديد النظريات حول مكان الذاكرة و طبيعتها و طرق عملها. أقدمها نظرية الفليسوف أرسطو طاليس التي عرفت بنظرية الأثيرTrace Theory  و التي اعتقد فيها أن المخ هو مخزن الذكريات, وأن كل حدث مما نمر به في حياتنا لابد و أن يترك أثراً في المخ في صورة أخاديد، و كأنك تمر بأداة حادة كالسكين أو رأس القلم على سطح الشمعة ـ  كما شرح أرسطو في تمثيله الذي حاول به تبسيط نظريته ـ إذ يترك هذا المرور أخاديد على السطح. و حدد الفيلسوف العربي ابن سينا تجاويف الدماغ بثلاث:المقدم والأوسط والمؤخر وجعل مخزن الذكريات في التجويف المؤخر منه. و في العصور الحديثة اقترنت النظرية المادية باسم ريبو الذي رأى ان الذكريات تحفظ في الدماغ على شكل آثار مادية يمكن للانطباعات الحاضرة ان تعيدها الى مجال الوعي، و كأن ذكرياتنا تخزن في المخ بذات الطريقة التي تخزن بها الموسيقى على الأسطوانة الممغنطة. و تستعاد هذه الذكريات كما تنبه إبرة الفونوغراف الموسيقى المسجلة على الاسطوانة.
هذا التشبيه و ككل التشبيهات يبدو سهلأ و مريحاً. لكن واقع الأمر غير ذلك، فكيف تحدث الأخاديد في المخ و كيف تختزن ذكرياتنا في أخاديده؟ من الصعب إيجاد جواب لهذه الأسئلة. و بالرغم من ذلك استطاعت نظرية الرسم على الأخاديد الصمود لمئات السنين كأحد التفسيرات المتاحة لعملية اختزان الذكريات. بفضل وجود أدله يعتقد مؤيدي هذه النظرية بوجاهتها، فإصابات المخ تؤدي لفقدان جزئي أو كلي للذاكرة. مما يعني أن المخ هو مخزن الذكريات. و عند تعريض مرضى الصرع لتيار كهربائي كأسلوب علاجيلوحظ استطاعة المريض استرجاع أحداث وذكريات معينة من ماضي حياته بوضوح تام. تختلف هذه الأحداث والذكريات باختلاف المنطقة من المخ التي يتم تنبيهها.
في القرن السابع عشر قدم رينيه ديكارت النظرية المائية أو نظرية السوائل المتحركة  hydraulic theory لتفسير الذاكرة. و تقول بأن تجارب الإنسان تؤدي إلى زيادة حركة السوائل من خلية إلى أخرى عبر جدران هذه الخلايا في اتجاه واحد عبر ثقوب دقيقة في جدران الخلايا
و لقيت هذه النظرية قبولاً واسعاً في حينها باعتبار الماء المكون الأكبر بجسم الإنسان و باعتبار أن السوائل في حركة مستمرة داخل الجسم الحي.
لم تصمد نظرية ديكارت طويلاً، لأنها كانت تعمد أساس التغير الكيميائي الذي يعري السائل عند تسجيل الذكريات عليه، إلا أن هذا مخالف لواقع الحال فالسوائل و رغم ميوعتها إلا أنها توجد في تركيب كيميائي ثابت. فالماء لا يتغير تركيبه الكيميائي, حتى بعد مروره بين خلايا المخ.
بالرغم من أن نظرية ديكارت لم تدم، إلا أنها فتحت الطريق لنظرية أخرى هي نظرية تحور التشابكات العصبية synaptic modification   و تقول بأن التجارب التي نمر بها تؤدي إلى حدوث تغيرات في التشابكات العصبية و  بقاء هذا التغيرات هو طريقة حفظ الذكريات مما يمكننا من استرجاعها ومما جعل هذه النظرية تلقى القبول أن مخ الإنسان يحوي ملايبن الخلايا العصبية, الأمر الذي يعني وجود عدد هائل من التشابكات العصبية التي تستطيع استيعاب سجل لكل الأحداث في حياة الإنسان, خصوصاً أن هذه التشابكات تربط أكثر من خليتين في ذات الوقت.
في مرحلة لاحقة، و مع اكتشاف ال"دي.إن.أي" DNA الذي يحمل الشفرة الوراثية في جميع خلايا الجسم, ظهرت نظرية الحمض النووي Nucleic acid theory التي تقوم على أن الحمض النووي في خلايا المخ هو المسئول عن تسجيل الذكريات, التي تخزن بإحداث تغيرات دائمة في الحمض النووي في خلايا المخ. إلا أن هذه النظرية تقطعت بها السبل عندما لم يثبت وجود أي حمض النووي داخل المخ ذو طبيعة كيميائية مختلفة عن الأحماض النووية الموجودة داخل باقي خلايا الجسم.
فيما بعد ظهرت نظرية المجال التكويني Theory of Morphogenic Field  التي قال بها الأمريكي روبرت شيلدريك و التي ذهبت إلى أن نمو الكائنات الحية لا يخضع لمؤثرات من داخلها, و إنما لمؤثرات خارجية على هيئة مجالات ذات درجات قوة مختلفة تؤثر في الإنسان، ليلتقط المخ الإشارات من المجال الخارجي بذات الطريقة التي يلتقط بها الراديو برامج الإذاعة. و كما يعمل المخ كمستقبل وفقاً لهذه النظرية فهو يعمل كذلك كمرسل، فلا يحتفظ بالذكريات بل يقوم بإرسالها إلى المجال التكويني الخاص بنا.
و في العصر الحديث دحض هنري برغسون نظرية معاصره ريبو لينفي حقظ الذكريات -  التي هي عبارة عن أفكار - داخل وعاء مادي هو الدماغ. و قال من خلال نظريته الروحانية بأن الدماغ ليس خزاناً أو وعاء تحفظ فيه الذكريات. بل هو مجرد مصفاة تمر عبرها هذه الذكريات ، و هذا الدماغ هو الذي يقوم باختيار الذكرى المناسبة للموقف المناسب. و أي إصابة للدماغ تمنعه من القيام بوظيفته كمصفاة أو كأداة اختيار. لذلك فليس هناك اي فقدان كلي للذكريات، و إنما هناك صعوبة تذكر. فالذكريات على رأي برغسون لا تحفظ في الدماغ لأن التجربة تؤكد أن فساد منطقة دماغية لا يلغي الذكريات الخاصة بها ،بل يعيق القدرة على استعادتها في ظروف معينة ،فمن فقد القدرة على التعبير بالكلام ونسي مثلا كلمة "لا" قد يتذكرفي حال الغضب هذه الكلمة، فالكلمة استعيدت بطريقة غير إرادية في وضع نفسي انفعالي، مما يؤكد ان الكلمة كانت موجودة ولكن ليس في الدماغ، و لم تكن الصعوبة سوى في استعادتها بسبب الخلل الدماغي.
فالذاكرة تبعاً لما يراه برغسون لا علاقة لها بالمادة وبالآليات العصبية، بل هي ذات طبيعة روحية لا تحفظ قط في الدماغ. و الوعي لا يتقبل سوى الذكريات المتلائمة مع حاجاتنا الحاضرة فالدماغ هو آلة استدعاء يستعملها الوعي لاستعادة الذكريات وليس مستودع حفظ لها.بل هي تحفظ في اللاوعي، ويوضح برغسون الأمر بمثل الاحلام، فخلالها تهجم الذكريات دون تمييز لانعدام الحاجات العملية عند النائم .
لا شك أن الذاكرة و محلها من الجسد، لن يغادرا محل الدرس و البحث لوقت لن يكون بأي حال بالقصير. و المسلمات في عقولنا أو قلوبنا و ربما في جيناتنا، لن تسلم بسهولة هيلمانها الذي تسيطر به على تفكيرنا. فمسلمات رافقتنا كل سنوات العمر، و عششت ذاكرتنا كل الوقت، لن نستطيع التخلي عنها بسهولة، خاصة إذا كانت هذه المسلمات تخص الذاكرة ذاتها. من الواضح أن العلم لن يتخلى عن أدواته خلال السنوات القادمة، و سنشهد توسعاً لعلوم الجينوم و الوراثة فوق الجينية و البروتيوم، و ربما تطبيقات عملية للاستنساخ و غيرها. لذلك علينا أن نكون مهيئين للاستغناء عن مسلمات من القدم و تصديق عقولنا بها ما جعلها و كأنها جزء من كياننا، و الاستعداد لتقبل نظريات ستطالها يد الإثبات، قد تمس الحبل الدقيق لما يعتقده البعض من مبادئ اخلاقية. علينا أن نكون مستعدين لتلك اللحظة بقدر من الفكر يحافظ لنا على عقيدتنا و مبادئنا الاخلاقية.
"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بماء شاء"





 سورة البقرة الآية 255