2012/11/12

صداقة مع المرض




لا أحد يحب المرض، والمرض لا يحب أحداً لأنه لم يحكى عنه أنه كان لطيفاً مع أحد في يوم من الأيام، لذلك تبدو دعوتنا لعقد صداقة مع المرض غريبة بعض الشيء.
معظم الأمراض تكون عارضة، فلا تكاد تستغرق أياماً حتى تختفي، فنجد أنفسنا مضطرين للتعامل معها كضيف ثقيل لا بد من احتماله بإعطائه ما يطلب من أدوية،والامتناع عما لا يحب مما اعتدناه في حياتنا اليومية. وربما أرغمنا على لزوم الفراش وعدم مغادرة البيت لأيام.
لكن ما نستطيعه مع الأمراض العارضة يبدو أنه يصعب علينا اتجاه الأمراض المزمنة، إذ نجد معظم المصابين بهذه الأمراض يتعاملون اتجاه أمراضهم بروح العدوانية.فيهملون واجباتهم اتجاهها،بإهمال تناول الدواء،ويتقاضون عن إيتائها حقوقها بالامتناع عما يجب الامتناع عنه.بل نجد بعض المرضى يتجاهلون أمراضهم تجاهلاً كاملاً محاولاً إلغاء وجود المرض، الأمر الذي يؤدي إلى تمرد المرض عليه والرد على صاحبه بعدوانية أشد.
إن الأمراض المزمنة تكاد تعايش الإنسان طيلة حياته منذ ارتباطها به فلا تفارقه أبداً، لهذا يجب على المريض أن يتعود مرضه، بل ويعقد صداقة متينة معه، ويحاول فهمه بقدر كافٍ يمكٌنه من التعامل معه بسهولة، فيعرف طلبات مرضه ليعيش معه في وئام وسلام. لأن المرض صديق صعب المراس لا يمكن أن يتقاضى عن إهمالنا حقه. فمرض ارتفاع ضغط الدم لا شك يغضب من صاحبه الذي يهمل أخذ علاجه، أو يقدم على كسر نصيحة طبيبه بإقدامه على تناول الملح . فيرتفع ضغط الدم لينقر على رأس المريض بآلام حادة محذراً إياه من التهاون في واجبات الصداقة المعقودة بينه وبين المريض.وتتكرر هذه التحذيرات بقدر تكرار إهمال المريض، فإذا لم يرى المرض من صاحبه استجابة لتحذيراته عاث في الجسد دماراً، فقد يختار الدماغ يُحدث فيه نزيفاً أو يسبب ضغطاً على القلب حتى ينهكه ويقوده إلى هبوط وظائفه، وربما كانت سورة غضبه شديدة لا تهدأ إلا إذا تمدد الجسد على الفراش مشلولاً. ومرض السكر ليس غضبه على من أهمل أداء حقوقه بأهون من غضب مرض ارتفاع الضغط،، فمن تهاون في أخذ علاجه من مرضى السكر من حقن أو أقراص أو تقاعس عن التزام النظام الغذائي المناسب كان رد المرض عليه "أن العين بالعين والسن بالسن" فمقابل تمادي المريض في التحلي بالسكريات وتناول النشويات والتمتع بحلاوتها، قد يفقده المرض نعمة البصر بما يحدثه من تأثير على شبكية العين، وربما قاده إلى غنغارينا قد تفقده أحد أطرافه وربما أفقده المرض قواه الجنسية.ومرض القرحة المعدية يعطي تحذيراته بآلام مستمرة داعياً صديقة ورفيقه المريض أن ابتعد عما يثيرني من سجائر وبهارات ومسكنات وقلق.فإذا لم يستجيب المريض كان النزيف وربما الانفجار.
لكن و رغم هذه القسوة فإن المرض لا يعرف الخيانة.... إذ يندر أن يصيب المرض صاحبه بطعنة مفاجئة في غفلة منه ، بل هو يعطي التحذير تلو التحذير والإنذار بعد الإنذار صابراً أمام تعنت المريض وإهماله وتجاهله له.فإذا رجع المريض إلى صوابه واهتم بصديقه المرض، كان هذا الأخير مثال الخل الوفي، فتقاضى عما سلف وعاد صديقاً صدوقاً لصاحبه لا يؤذيه مادام قائماً بما يجب اتجاهه.
هكذا فقط نستطيع أن نعايش أمراضنا، بأن نتعرف عليها جيداً...نعرف ما يجب اتجاهها لنلتزم به كل الالتزام، لكي نتجنب لحظة ندم نشعر بها يوماً وقد قُفلت كل طرق العودة.

قصة ليست للأطفال (3) الشيخ الجليل



ما كان يختلف كثيراً عن غيره من الصيادين لمن رآه عن بعد. ذات الملابس الرثة التي لا يكاد يفارقها البلل في شتاء أو صيف. ذات السمرة التي تكتسي وجوه جميع الصيادين، من كثر عناقها لشمس تأبى إلا أن تترك بصماتها على وجوه رجال اعتادوا حرقتها الدائمة، فما عادوا يبحثون عما يقيهم حرها. و كباقي رفاقه على ظهر هذه السفينة، و بخلاف صيادي السفن الأخرى، يتشح وجهه مسحة حزن لا تكاد تفارقه، لم تُفلح لحيته البيضاء الكثيفة في إخفاء ملامحها، و ما كانت النظرة لتتوه عنها رغم تجاعيد غائرة تكتسي وجه الشيخ، و كأن كل واحدة من ثناياها تؤرخ لعمق ما عاشه صاحب هذا الوجه، من ألم رُغم صبر, و معاناة رغم جلد، ميزاه طوال حياته.
كان يحضى بالاحترام بين كل الصيادين، كبيرهم و صغيرهم. لم يكن الأكبر سناً بينهم لكنهم كانوا يرون فيه ظِل الحكمة على سطح سفينتهم و فوق يابسة مدينتهم، في ظل زمن تظِلُ فيه الحكمة عن الكل و تتوارى وسط موج من الزحام الذي لا يرحم. كانوا يلجئون إليه جميعاً للفصل فيما بينهم. و لم تكن لتتعطل قوانين حكمته إلا بما يفرضه عليهم القبطان من أوامر، لا تكترث في أغلب الأحيان برؤية حكيم أو فصل قاضٍ.
يوم اهتزت الأرض وربت. يوم قررت الشمس أن تشرق في ذات اليوم مرتين على ذات اليابسة و ذات البحر، يوم فتحت السماء  أبوابها ، لتعبر دعوات كل المظلومين و الفقراء و المعوزين، كان الشيخ أول الداعين، كان الأعلى صوتاً و الأطول يداً. كان يتابع دعواته و هي تعبر باب السماء، و رغم شعور اعتراه بأن يديه تلامس السماء، إلا أن ذلك أبداً لم يشغله عن مواصلة الدعاء، لأنه كان يدرك أن المزيد من الدعاء سيفتح المزيد من الأبواب في السماء، و كما توقع بثقة لم تغب عنه يوماً، كان دعاءه يجلب المزيد من الداعين، و يفتح المزيد من أبواب السماء, و ما كان للدعاء إلا أن يُستجاب بمطر مدرار لم تشهده اليابسة من قبل. رعد مرعب و برق شديد الومض، ومطر ينهمل كالسيل فيخلق سيولاً كالأنهار. تُغرق السفن و تُخرج الذئاب من البيوت.
لم يأبه لنداءات القبطان، طلب منه أن يعود ،هدده بالويل إذا لم يرتدع، اتجه إليه بسيل من النعوت. لكن الشيخ لم يطأطئ، بل لم يأبه به، ليس لغفلة منه و لكن لإيمان عميق في داخله بأن السيل الجارف قادم، و لن يرحم ذئب جائر و لا قبطان ظالم.
انتهى الأمر ... خرج الذئب من البيت محاولاً التواري داخل جُحر لكن السيل جرفه، لفظ البحر القبطان وقُبر في مكان لا يُعرف، و توقف المطر معلناً بدء الحياة.
بعد أخذ ورد، و كثير من الجدل و الحوار شمر كل صياد عن ذراعيه معلناً أن له دوراً في إعادة بناء السفينة. كانت النوايا الحسنة تُظلل الجميع، لكن البعض شغلته أموال القبطان التي وجدوها في خزنة السفينة بعدما رمى بها البحر.
كان الشيخ الجليل يُجاهد لعله يحافظ على لُحمة الصيادين. أراد أن يوحدهم الفرح و الحلم كما كانوا  تحت سوط الظلم و جور القبطان. جمع بعضاً من خشب السفينة و قال لهم إن كومة العصي مجتمعة أقوى و أشد من مفردها. لكن في الأمر جدة، وفي جديد الأمور تكثر الآراء و تتعدد المشارب. ذهب الصيادون كل مذهب، و ربما ذُهب بهم كل مذهب، و صارت حكمة الشيخ الجليل عاجزة عن إيجاد مدار يوحدهم أو مسار يجمعهم. بل إن البعض أخذ كومة العصي التي جمعها الشيخ وأحرقها ليتدفأ بها.البعض ذهب إلى أن الشيخ قد فقد أدواته. سلاح الشيخ كان الدعاء، و قد حقق دوره و اليوم حان وقت العمل.
يتأسى الكثير من الصيادين اليوم، لأن الشيخ ما عاد يُقدم لهم حلولاً كما عهدوه. لكن القليل منهم يعفي الشيخ أيما تقصير، لأن ما يُرى قصوراً إنما هو محصلة واجبة التحقق لمبالغة منهم فيما توقعوا منه، فما الشيخ الجليل إلا واحد منهم، يرغب في مشاركة الكل في بناء سفينتهم دون رغبة منه في إمساك سوط القبطان من جديد. البعض يرى إن بعض الشدة قد تُسرع العمل و إنه قد حان الوقت لعقل الناقة فما عاد التوكل لوحده ليفيد بشيء.
قد يتبع....

قصة ليست للأطفال ( 2 )



شمر الرجال عن سواعدهم، يمموا شطر شاطئ البحر بعدما قلبوا الأمر على عدة أوجه، فقدروا ثم قرروا أن الخير و الفلاح في إعادة بناء سفينتهم بعدما عفاهم القدر و دعوات صالحيهم و صبرهم و مجالدتهم من قهر قبطان لم يكن يرحم.
سعوا حتى أدركوا الشاطئ. فمضيت و قد لملمت أوراقي دون أن تفارقني صورتهم التي رسمها لهم خيالي و هم يغنون و يتسابقون في فرح و همة ساعين لملاحقة الزمن خشية أن يغادرهم إلى سواهم مرة أخرى. ظننت أن الحكايا قد طالت خواتمها. و أن بدء الحياة لهؤلاء الصيادين قد كُتب بنهاية قصة ليست للأطفال. لكن و منذ تلك اللحظة لم يتوقف الطرق على بابي، و لم يتوقف هاتفي الداخلي عن المناداة، و كل منادٍ و أيما طارق أراد أن يبلغني بأنه قد يكون للحكايا خواتم أخرى. حاولت إقناع من طالني منهم بما كان يعتمل في صدري بأن النهاية باتت و أن الخواتم قد بانت، و إن ما ترونه و سترونه هو بداية حكاية البِشر و الخير، لكن نفر و نفر منهم أصروا على أن القصة لم تنتهي. بل إن البعض ذهب إلى أن القصة يجب أن تُكتب من جديد وفقاً لما جد من واقع الحال و ما قد يجد من أحوال، بل لم يستثنوا عودة القبطان ليقود السفينة من جديد عبر ظلمات البحر اللجي. لكن هؤلاء كفوا عما هم فيه بضحى رابع أو خامس يوم عندما و جدوا جثة القبطان مرمية على الشاطئ، و قد طالها أثر فعل البحر الهائج الذي أذاقه الويلات قبل و بعد مصرعه ، و كأني به كان يكافئ صياديه بما صبروا. اقتنع الجميع بأن الزمن لن يرجع من جديد إلى الوراء، لكنهم اتفقوا على أن الحكاية لم تكتمل، و أن فيها فصولاً لما تُنجز بعد.
في صباح اليوم التالي و بعدما توارت جثة القبطان دون أن يكلف أحد منهم عناء السؤال عنها، عمد الصيادون إلى ديدنهم الذي تواتروه منذ أيام و هو  لملمة أجزاء سفينتهم المعطوبة، لعلهم يفلحون في إصلاحها ليعجلوا بإعادتها لعرض البحر .
لو سُخر لك أن تقف معهم في تلك اللحظة فلن تحتاج لكثير وقت لتدرك اتفاقهم في المراد و الهدف و هو الخير لكل الصيادين. و لن تحتاج كثير وقت أيضاً لتدرك مدى خلافهم حول سبيل الوصول لهذا الخير. فمنهم من رأى إن الخير في بيع السفينة ليستفيد الصيادين من عائد بيعها، والبعض تحجج بمبيت أهله في العراء و اختار أن يُجعل من خشب السفينة بيوتاً للصيادين، و حتى أولئك الذين اتفقوا على خيٌرة إعادة بناء السفينة، اختلفوا فيما الخير . أيصلحونها بأنفسهم أم يعتمدون على سواهم، و هؤلاء الذين اختاروا الاعتماد على سواهم اختلفوا في سداد أجور من يستخدمونهم لهذا العمل، هل سيجعلون منهم شركاء في السفينة أم يدفعون لهم مالاً لقاء عملهم. فإذا فضلوا الدفع لهم فمن أين سيدفعون، هل يقترضون؟ و هل يرتضوا شروط مقرضهم التي قد تخالف ما يعتقدون. مشارب عدة ستلقاها و آراء أكثر ستسمعها و أنت بينهم. الخلاف بينها واضح و التضارب بين، فلا يكاد يجمعهم سوى فرحهم و حلمهم بغدٍ أفضل.
اختلفوا حتى فيمن ينال شرف المشاركة في إصلاح السفينة، فاستبعدوا هذا لأنه كان يُمسك سوط القبطان، واستبعدوا آخر كان يسترق السمع و ينقل آهاتهم للقبطان، و أقصوا هذا و ذاك و ذاك. و كانت حجتهم جلية، لأن هؤلاء أزلام القبطان، و لن يتوانوا لحظة عن دس السحر بين ألواح السفينة لتغرق. حتى قبل أن تلامس البحر من جديد اختلفوا على من سيركب السفينة، فسارع كل يقدم حجته لطلب المقدمة، غير هيابين لنظرات الحسرة في عيون أصدقائهم من الصيادين، و نظرات شماتة في عيون آخرين.
اقترح بعضهم أن يختاروا من بينهم من يكون قبطاناً يعطيهم الأمر و ينظم الأدوار بينهم لعل إنجاز العمل يكون أسرع و أدق، إلا أنهم اتفقوا جميعاً إن قبطاناً جديداً لاشك تجعله الأيام ذات قبطانهم القديم، ذلك أن في دفة السفينة سحر مدفون هو سحر الجبروت الذي لا ينفك يغشى من يقف وراء هذه الدفة.
خلال الأيام الأولى كانوا يعملون بجد في وفاق لا يكاد يطاله خلاف. أما اليوم فهم ما انفكوا يعملون ولكن في خلاف و شقاق دائمين لا تكاد تتبين من ورائهما شيء من وفاق، فقد تباينت الآراء و تعددت و كثرت مشارب الفكر لديهم.
كان بينهم شيخ جليل يستبقهم كل يوم إلى السفينة فيجمع بعضاً من ألواحها الصغيرة و يربطها بحبل، و ما أن يجتمع إليه الصيادين حتى يقف في وسطهم يشحذ هممهم و يدعوهم للتعاضد و التصالح مدللاً بكومة العصي على فضل التعاضد و اللحمة لخير الجميع.
ذات صباح داوم الشيخ ديدنه ذاك، لكنه و لما التفت إلى كومة العصي لم يجدها، إذ أخذها أحد الصيادين ليستوقد بها ناراً لعلها تُذهب عنه لسعات صباح شتاء قارس و برد غدٍ لم تتضح معالمه بعد. بعض الصيادين واصلوا تحلقهم حول الشيخ و استماعهم إليه مجاملة. و بعضاً آخر انفضوا عنه معتقدين بطلان حجته بعدما فقد أدواته.
كانوا يلاحظون كل صباح انسياب بعض ألواح السفينة في البحر ، فتصيب الحسرة أنفسهم و يتأسفون على كل يوم يمضي لا يستطيعون فيه ممارسة فعل الصيد. كانوا مدركين لخلافاتهم و شقاقهم، و عارفين حق المعرفة بالمتسلقين الذين يسعون لمصالحهم غير آبهين و لا هيابين و لا مستحين، و إن حُصل ما يؤتونه من مصالح على حساب سفينتهم التي تهمهم جميعاً.
يدركون أن سفينتهم كنز ثمين يستحق المحافظة عليه، يدركون أن الشتاء قريب، و في الشتاء تتكون الأمواج العاتية، التي قد تطال سفينتهم لتجرفها عبر متاهات البحر الهائج دونما مُستقر.
كانوا يتعجلون الانتهاء من إصلاح سفينتهم ليس لأنها مصدر رزقهم و حسب. بل لأن انطلاق سفينتهم من جديد فيه الخلاص من كل النزاعات و الخلافات السائدة اليوم.
قد يتبع....

العــــــلاج بالسحر والرقى (وهم أم علم)


صدر حديثاً عن دار النفائس بيروت:
العــــــلاج بالسحر والرقى

(وهم أم علم)
د.حمد الرقعي

يعتمد كثير من المرضى السحر والرقى للتداوي، ويلجؤون إلى الأولياء والقديسين، فما الذي يدفعهم إلى هذا السلوك بدل اعتماد الأطباء والدواء يا ترى؟.
إن دافعهم هو ما يرونه يومياً أمام أعينهم. فهذا مريض شُفي عندما قام بزيارة ولي، وهذا مشلول لم يستطع القيام إلا بعد شربة ماء قرئت عليها طلاسم معينة، وهذه امرأة ما أبصرت إلا بعد سماعها دفَّ الساحر عند رأسها!
ومن يرى هذا يحدث أمامه ليس له إلا أن يصدق بقدرة هؤلاء على الشفاء، أو بأن الله يجعل الشفاء على أيديهم أو بوساطتهم، فالتجربة مثبتة أمامهم لا شك فيها. وهذا لا علاقة له بعلم أو إيمان.
إن هذه الوقائع هي التي دفعت المؤلف الطبيب، الذي يعتمد العلم طريقاً ومنهاجاً، لأن يقدم هذا البحث إلى القراء، ليبين لهم فيه كيفية حصول الشفاء علمياً على أيدي السحرة، وعند قبور الموتى وفي مزاراتهم، وهذا هو الغور العميق الذي يسعى لسبره من خلال صفحات هذا الكتاب الممتع.

الحجم: 14×20 سم – عدد الصفحات: 184


2012/09/22

كيف وجد يعقوب ريح يوسف



كيف وجد يعقوب ريح يوسف

حمد الرقعي                          

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ)[1]
طويلة هي السنوات التي قضاها يعقوب عليه السلام، ينتظر ابناً تاه عنه في لحظة من الحياة أظلمت بغيرة إخوة لا يرحمون. طويلة هي السنين، تمضي على شيخ غاب عنه أحب الأبناء إليه و غاب عنه بصره. يزيد في وطئة هذه السنين أمل لا ينقطع بعودة الابن الغائب. ذهب عنه بصره و لم تذهب بصيرته، فصابر و جالد رغم طول الزمن و رغم شدة الحزن التي قيست بحزن سبعين ثكلى. اشتد الوهن و طال الزمن  بغياب يوسف حتى أوصله بعض الرواة لثمانين عاماً. هذا الزمن كان كافٍ لذلك الابن لأن ينتقل من ظلام الجبّ إلى السجن وأخيراً إلى عرش الملك، و كما كان الابن محافظاً على إيمانه بقي أبوه يعقوب عليه السلام واثقاً بالله لم يفقد الأمل من رحمته، و لم يغب عنه خيال ابنه للحظة، بل ظل ذاكراً له آملاً بعودته. حتى حانت لحظة قدرها الله، ليعتق بها شيخ ضرير من انتظار لا ينتهي، فها هو يوسف يبعث بقميصه لأبيه، و قبل أن يصل القميص، بل قبل أن تطال القافلة محط رحالها، و من قبل أن تترأى لمترقبيها وإن عن بعد، ها هو يعقوب يبشر نفسه و يخبر الآخرين بأنه يجد ريح يوسف. لم يشتم يعقوب ريح ابنه يوسف عندما طالت يداه الثوب، بل وجدها قبل ذلك بكثير،  يقول القرطبي : "ولما فصلت العير" أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، وقال البغوي : من مسيرة ثلاثة أيام، و روي عن ابن عباس: من مسيرة ثمان ليال، وقال الحسن: كان بينهما ثمانون فرسخا.
قال الشيخ محمد الشعراوي في كتابه قصص الأنبياء و المرسلين: لأن القافلة الكبيرة لما غادرت المدينة التي كان يقيم فيها يوسف, كانت تضم عدداً كبيراً من الناس فكانت رائحة يوسف مختلطة بروائح كثيرة, كما أن مباني المدينة كانت تحجزها، فلما خرجت القافلة من المدينة, و انقسمت إلى مجموعات صغيرة، أوصل الله رائحة يوسف إلى يعقوب عليهما السلام. 
كيف تيسر لسيدنا يعقوب أن يجد ريح ابنه على مسافة طويلة قبل أن يصل القميص إليه؟
يحدثنا علماء الفسيولوجيا اليوم عن وجود أثر في الدماغ خلف فتحتي الأنف لعضو ضامر يسمى العضو الميكعي الأنفي أو عضو جاكبسون  vomeronasal الذي اكتشفه فردريك رويش ولاحقا لودفيغ جاكبسون [2] عام .1813  كان هذا العضو في يوم من الأيام يلتقط الإشارات الكيميائية البعيدة الصادرة عن أشخاص آخرين. فكان هذا العضو الذي لم نعد نجده اليوم يلتقط الإشارات الكيميائية التي يفرزها أشخاص آخرون، فيحلل هذه الإشارات للتعرف على صاحب الرائحة المصدرة للإشارات الكيميائية.
هذه الخلايا العصبية كانت فعالة منذ آلاف السنين، لكنها فقدت حساسيتها مع الزمن ولم يعد لها مفعول يُذكر، ويؤكد العلماء أن هذا العضو كان مستخدماً بفعالية كبيرة لدى البشر في عصور سابقة.  
هذا عن المستقبِل أما بخصوص المرسِل – مصدر الرائحة – فقد توصل باحثون أميركيون في الحقل النفسي عن طريق تجربة علمية نشرت نتائجها في مجلة Nature إلى أن الروائح الجسدية موجودة فعلاً، حيث أن الجزئيات ذات الروائح الصادرة عن مواضع معينة في الجسم تسمح للكائنات المنتمية للنوع الواحد بالتواصل عن بعد. فالحشرات والحيوانات الثديية تتخذ من هذه الروائح وسيلة تحدد بها مناطقها الخاصة و تتعرف على المجموعات التابعة لها، و تبعث إناث الثدييات رائحة خاصة في مرحلة الإباضة لتدل الذكور على الوقت المناسب للتزاوج والإنجاب. و لاستشعار هذه الروائح تستخدم الثدييات الأنف الخفي أو العضو الميكعي الأنفي أو عضو جاكبسون  Vomeronasal  الموجود في تجويف واقع في مقدمة المادة المخاطية الشمية في الأنف، و يقوم باستقبال الروائح التي يعجز عن تحديدها الأنف الطبيعي.
و قد أظهر أحد الأبحاث الذي أجري في هذا المجال أن القطط تنتج إشارات كيميائية في صورة روائح من شأنها أن ترعب الفئران. فعندما تلتقط الفئران إشارات ناتجة عن بروتينات معينة توجد في لعاب القطط وبولها يكون ردة فعل الجرذان الخوف الشديد. إذ أن هذه الروائح تؤثر على الخلايا الموجودة في عضو جاكبسون لتصل الدماغ مما يجعل الفئران تُظهر أعراضاً مثل التجمد من الخوف أو الالتصاق بالأرض و تقوم بحذر بالشم والتحقق من محيطها.
و للتأكد من دور عضو جاكبسون في رد فعل الفئران اتجاه القطط، قام العلماء بإزالة هذا العضو لدى بعض الفئران ثم وضعت في مواجهة قط حي لكنه مخدر، و كانت النتيجة مثيرة للدهشة، إذ لم تبدي الفئران أيما فعل يدل على الخوف مع أنها رأت القط أمامها تماماً. بل أن أحد فئران التجربة ذهب للنوم بجانب الجرذ, حيث أن جو الغرفة كان بارداً، و أراد هذا الفأر أيما مصدر للدفء و إن كان عدوهم اللدود القط.
و في سبيل معرفة أي أثر مشابه للروائح بين بني البشر، عُمد إلى تجربة تم فيها تبليل قطع قطن بعرق 9 نساء، ثم  طلب من 20 امرأة أخرى أن يبللن شفاههن بمحتوى القطن بشرط عدم غسل وجوههن لمدة ست ساعات. كررت هذه التجربة يومياً لمدة 4 أشهر بعد تقسيم مجموعة النساء إلى فئتين ،الفئة الأولى تشم عرق نساء في النصف الأول من الدورة الشهرية ، و الفئة الثانية تشم عرق نساء في النصف الثاني من الدورة الشهرية. فكانت النتائج أن النساء المنتميات للفئة الأولى، ارتفع معدل إفرازهن للهرمون اللوتيني ( LH ) فلاحظن قصر الدورة الشهرية . أما النساء المنتميات للفئة الثانية، فقد تراجع معدل إفرازهن للهرمون اللوتيني، مما أدى إلى إطالة الدورة الشهرية. كانت هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها تأثير الافرازات البشرية التي لا يعيها الأنف البشري . وهذا ما يفسر حصول التزامن في الدورات الشهرية لبعض النساء اللواتي يتشاركن ذات المكان.
فالعلماء اليوم يعتقدون بوجود إشارات كيميائية يتم تبادلها بين البشر، ويحاولون استكشاف هذه الإشارات و دراسة تأثيراتها، ويعتقدون بوجود مواد كيميائية تميز كل إنسان عن الآخر، فلكل منا رائحته المختلفة عن الآخرين، حتى إنه يمكننا القول بأن لكل إنسان بصمة كيميائية تتمثل في أن جسده يفرز مواد محددة تختلف عن أي إنسان في العالم، وتبقى هذه الرائحة مرافقه له منذ ولادته وحتى الموت.
و يتم استقبال هذه الإشارات الكيميائية بواسطة جزيئات تسمى TRP متواجدة على الخلايا العصبية، وعندما تأتي المواد الكيميائية التي يطلقها إنسان آخر فإنها تندفع عبر الجزيئات TRP وتسبب تغيراً في توتر الخلية (الطاقة الكهربائية المختزنة في الخلية)، فترسل الخلية إشارات كهربائية إلى الدماغ يحللها الدماغ كتحليله للإشارات الواردة من العين أو الأذن.
والآن لنعيد تأمل  الآية الكريمة من جديد في ضوء ما ذكرناه، فقد أحضر إخوة يوسف قميصه المحتوي رائحته، هذه الرائحة انتقلت مع الريح لتصل إلى أنف سيدنا يعقوب قبل أن تصل القافلة.
وبما أن الدماغ البشري كان يملك قدرة كبيرة على تحليل الإشارات الكيميائية أو الروائح، فإن سيدنا يعقوب استطاع تذكر رائحة ابنه الذي مضى على غيابه عشرات السنين، بينما بقية أفراد العائلة لم يصدقوا ذلك، إذ أن الجميع يظن بأن يوسف قد أكله الذئب، ولذلك قالوا له: (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ )[3]
و لكن لماذا لم يجد الآخرين ريح يوسف، ربما كان اعتقادهم بموت يوسف حاجباً لأي رسالة تقوم حواسهم باستقبالها بأن يوسف لا يزال حياً. أما سيدنا يعقوب عليه السلام، فلم يصدق يوماً موت ابنه، و كان على الدوام في انتظار رسالة منه،  الرسالة التي أتت أخيراً في صورة رائحة يوسف، لذلك قال سيدنا يعقوب أنه وجد ريح يوسف و لم يقل بأنه قد شمها، لأن سيدنا يعقوب قد وجد فعلاً هذه الرائحة، وتعرَّف عليها جيداً لأنه كان يبحث عنها طوال سنوات، وهذا يدل على الثقة الكبيرة لسيدنا يعقوب بهذه الرائحة.





[1]-  سورة يوسف الآية 94
[2] - جراح ألماني ولد عام 1783 و توفي عام 1843 اخترع العديد من الأدوات الجراحية، و له العديد من الكتابات.
[3] سورة يوسف الآية 95

ذاكرة الشم


هل حدث معك يوماً أن كنت ماراً فشممت رائحة أخرجت من تلافيف ذاكرتك صورة لمناسبة أو شخص ما. كثيرة هي الروائح التي نشمها بأنوفنا فتعيد لنا ذكريات مضت. رائحة الخشب المحترق تعيدنا لنزهة في يوم ما مع العائلة أو الأصدقاء، رائحة الكحول و المواد المطهرة قد تعيد إليك ذكريات إقامتك بالمستشفى، ورائحة البخور التي تعبق بها الأسواق الشعبية، ستعيدك بالذكريات إلى يوم زفافك، و ربما ذكرتك بالساحر الذي زرته ذات يوم.
جميع الروائح التي تمر بنا في حياتنا، يستقبلها المخ ليحفظها ضمن أرشيف كبير، يضم عشرات الآلاف من الروائح. و عندما تلتقط المستقبلات الشمية الروائح المختلفة التي تطلقها الأشياء من حولنا، تقوم بإرسالها إلى البصيلة الشمية، ومنها تصل إلى المنطقة المختصة بالشم في الدماغ، حبث يتم تقليب صفحات الأرشيف داخل الدماغ بحثاً عن رائحة تحمل ذات التشفير، و عندها يبلغنا الدماغ أن الرائحة التي تم استقبالها مطابقة تماماً للرائحة الموجودة بالأرشيف الخاصة بالتفاح، و بالتالي فإن الرائحة التي تم نشمها هي رائحة التفاح, أما إذا لم يجد الدماغ ما يطابق الرائحة التي نشمها ضمن أرشيفه، فيحاول البحث عن الرائحة الأكثر مشابهة لها، فنقول هذه رائحة تشبه رائحة التفاح، أو رائحة تشبه رائحة الياسمين. فإذا كنت تحاول اختيار عطر ما داخل محل العطور، فبمجرد شمك لعطر ما سيخبرك الدماغ بنوع العطر وفقاً لما تم أرشفته سابقاً، لكن إذا شممت عطراً جديداً، فالدماغ لن يجد رائحته داخل الأرشيف، و بالتالي سيبلغك بأن هذا العطر مشابه لرائحة الياسمين أو التفاح أو غيرها من الأشياء، و ربما توجد ذكريات مخزنة حول هذه الرائحة، فيخبرك بأن هذه الرائحة هي التي شممتها في تلك المناسبة، أو عند ذلك الصديق. و عندما يبلغك البائع باسم العطر، فإن الدماغ يؤرشف الرائحة الجديدة بهذا الاسم، و يبلغك بإسمها إذا شممتها من جديد. فذاكرة الشم هي التي تقودنا إلى معرفة هوية الروائح التي نشمها في حياتنا اليومية، و كل رائحة يتم تخزينها في ذاكرة حاسة الشم حسب رموز معينة. وعند إحساسنا برائحة ما يتم التعرف عليها حسب ما يقابلها من رموز موجودة في أرشيف ذاكرتنا الشمية، ولو شممنا رائحة ما غريبة علينا، أي لم نصادفها من قبل فإن مخ الإنسان يحاول تحليلها حسب أقرب رائحة إليها مخزونة في الذاكرة الشمية، و من المستحيل التعرف على الروائح لولا وجود هذه الذاكرة.

 إن الأرشفة الدقيقة لعشرات الآلاف من الروائح، و السرعة الرهيبة في استدعائها عند الحاجة إليها، تعتبر معجزة تجعل حاسة الشم تتفوق على غيرها من الحواس في دقتها.
و شم رائحة ما، يستدعي لنا الذكريات المرتبطة بالرائحة سواء كانت هذه الذكريات ممتعة أم محزنة، فشمك لرائحة كنت قد استخدمتها في مناسبة معينة، ستعيد إليك ذكريات تلك المناسبة بتفاصيل دقيقة كنت تعتقد أنك قد نسيتها. و يطلق على هذه الظاهرة "ظاهرة بروستيان" نسبة إلى الكاتب الفرنسي مارسيل بروست، الذي نشر إحدى الروايات حول تذكر الماضي، والتي ورد فيها تذكره لماضيه نتيجة شمه رائحة البسكويت الذي تعده "مادلين" بطلة الرواية.
و وجد أن الذكريات التي تُستدعى بشم الروائح أشد عاطفية و أكثر تفصيلاً من الذكريات المصاحبة للحواس الأخرى كالنظر أو السمع. و يمكن إرجاع ذلك إلى أن جزيئات الرائحة التي نشمها تنتقل مباشرة إلى منطقة الأميغدالا في الدماغ المسئولة عن السيطرة على العواطف، أما الحواس الأخرى فلا تؤثر في هذه المنطقة بشكل مباشر، لذا فهي تحفز عاطفة أقل. فالمسار الرئيسي المؤدي للدماغ بالنسبة لحاستي البصر والسمع يبدأ بأعضاء الإحساس و يمر قبل وصوله للمخ بمنطقة المهاد التي تعمل كمحطة توصيل للمعلومات إلى قشرة الدماغ، أما إحساسات الشم فتدخل إلى القسم الأمامي من المخ مباشرة دون المرور على المهاد.
في إحدى التجارب عرضت 60 صورة مختلفة على المتطوعين، ومع كل صورة كانت تصدر رائحة إما لطيفة أو كريهة. وبعد الانتهاء، تم إخضاع كل متطوع لفحص دماغي بالرنين المغناطيسي، بينما يعاد عرض الصور مرة أخرى وعلى المتطوعين محاولة تذكر الرائحة المصاحبة لكل صورة. أعيدت التجربة للمتطوعين مرة أخرى  بنفس الصور ولكن باختلاف الروائح. بعد أسبوع من التجربة، عاد المتطوعون ليتم فحصهم. عرضت عليهم الصور مرة أخرى وطلب منهم تذكر الروائح. وجد العلماء أن الانطباع الأول للرائحة يكشف نشاط مميز وفريد في الدماغ. ولمعرفة تأثير الحواس الأخرى ، أعيدت التجربة باستخدام الأصوت بدلاً من الروائح، فوجد أن الأصوات لم تترك ذات الأثر الذي تركته الروائح. و يعود ذلك إلى أن وصف الأشياء بالكلمات يقلل من العاطفة التي نشعر بها تجاه الموصوف. فالروائح لها قدرة كبيرة على إعادة الذكريات بصورة أوضح، لأنه من الصعب وصف الروائح بالكلمات، إذ  لا يوجد أسماء نصف بها الرائحة. فنحن نسمي الأشياء من حولنا بأسماء متفق عليها في كل لغة، أما الأسماء التي نطلقها على الروائح  فهي في الحقيقة أسماء لمصدرها فنقول رائحة القرنفل و رائحة الياسمين و رائحة الموز... و هكذا.
و هنا أتذكر قول الشاعر نزار قباني:
           كـلمـاتـنا فـي الحـب تـقـتل حبنا                                          إن الحـروف تمـوت حـين تقال
يقوم الدماغ باستقبال ما يصله من بيانات شمية و من ثم تحليلها و مراجعة مخزونه من الذكريات المتعلقة بهذه الرائحة فيتم استدعائها، و قد وجد أن للروائح قدرة على تنشيط الذاكرة والمساعدة في تذكر أشياء قد مضى عليها زمن ليس بالقصير و تكون هذه الذكربات المستدعاة بواسطة أحاسيس شمية أقوى وأكثر عاطفية وتفصيلاً من تلك المصاحبة للحواس الأخرى‏ كالنظر و السمع و ذكريات الروائح هي الأطول مكوثاً في ذهن الشخص مقارنة بالانطباعات التي تتركها صورة ما أو لحن موسيقي تم سماعه، فمع مرور الوقت تبقى الذاكرة الشمية حاضرة في حين تتلاشى الذاكرة البصرية أو السمعية. ففي إحدى التجارب تم إطلاق رائحة في غرفة يذاكر فيها بعض الطلاب وخلال الامتحان تم إطلاق نفس الرائحة فكانت نسبة الإجابات الصحيحة مرتفعة بشكل ملحوظ.
فالروائح تنشط مناطق كثيرة في الدماغ فتجعل الإنسان يتذكر أشياء ارتبطت برائحة المادة التي يشمها، ليستطيع الإنسان تذكر أشياء مضى عليها عشرات السنين ويربطها بهذه الرائحة.
و تذهب العديد من الدراسات إلى أن الروائح تستطيع  إحداث تغييرات فيسيولوجية في جسم الإنسان، بل أنها تؤثر في القسم الأمامي من الدماغ المسئول عن السلوك واتخاذ القرارات.
فمن الواضح أن حاسة الشم ترتبط بالعواطف بشكل مباشر, إذ أن اشتمام بعض الروائح قد يغير من مزاجنا, و يؤثر في مشاعرنا, فمجرد اشتمام رائحة القهوة عند البعض, يجعلهم يتخلصون من المزاج الكسول, و يشعرون بالنشاط أكثر.
و نتيجة لهذا الارتباط الفريد بين حاسة الشم و الدماغ الذي يعالج العواطف، يصبح بالإمكان إيقاظ الأحاسيس والمشاعر المكبوتة، والذكريات المخزنة التي قد تكون من النوع المؤلم، من خلال مؤثرات حسية معينة، كرائحة عطر، أو صوت شلال، أو منظر طبيعي معين. و لا يخفى الدور الذي يلعبه استدعاء الذكريات في العلاج النفسي.
والدراسات الحديثة في هذا المجال تؤكد بأن العكس أيضاً صحيح، فتذكرنا لمناسبة معينة، سيعيد إلينا كذلك الروائح التي كان يعبق بها مكان المناسبة، و تذكرك لشخص ما، سيعيد إليك رائحة العطر الذي يستعمله.ففي إحدى التجارب المتعلقة بهذا الشأن طُلب من المتطوعين ربط قصة عاشوها في حياتهم مع الروائح السائدة فيها.  وعندما عرضت الصور المتعلقة بالمناسبة على المتطوعين الموضوعين تحت المراقبة الدماغية الحركية، وجد أن تلك الصور أثرت في المناطق الشمية الدماغية بشكل كبير، حيث لوحظ تبدلاً واضحاً في استجابة القشرة الدماغية.

2012/02/10

رسالة وطن


رسالة وطن
د .حمد الرقعي                 

لم يكن بالقصير، ذلك الزمن الذي عشته في غيبوبة كاملة، فقدت فيه القدرة على قول شيء أو حتى الإتيان بشيء. أربعين حولاً و حول و حول، كل حول بأربعة فصول، خريف و خريف و خريف و خريف، و أنا ممدد على فراش الوحدة و العزلة. لا يُثبت وجودي في هذا العالم سوى الحيز المكاني الذي أشغله ضمن خارطة البيت. أربعين عاماً من العزلة عن إخوتي و جيراني و رفاق الصبى و ربيع العمر. أربعين حولاً مضت علي معزولاً مهمشاً  لا أكاد أخطر في بال أحد، و لا يذكرني الآخرين سوى بما يأتيه المنحرف من أبنائي من سؤ الفعل اتجاه أشقاءه و جيرانه  و حتى اتجاه الآخرين الذين يبعدون عنا مسافات طويلة وراء البحر أو خلف الصحراء. و لشد ما كان يؤلمني ما يأتيه العاقين من ابنائي اتجاه اخوتهم من البشر. لكن لم يكن باليد من حيلة.
عيرني الجميع بهم، و ليس أشد على الرجل من أن يعير بفعل أبنائه. و لو يسر لي القدر شيئا من قدرة في ذلك الوقت لكنت تبرأت منهم و لطردتهم شر طردة, لكن يد الله كانت تُسير المقادير وفق إرادته، فلم تُيسر لي ذلك، لحكمة لا يعلمها سواه حتى الآن.  
بالرغم مما اعتراني في مرضي من يأس و غنوط  طيلة عقود، إلا أني لم أُنكر أي من أبنائي ... لم أقل في يوم من الأيام لأي منكم من أنتم. فأنا أعرفكم جيداً . لم أتوجه باللوم حتى لمن اختاروا تركي و الهجرة عني بسبب جور الزمان عليهم، و ظلم أبنائي بعضهم بعضاً. هجروني لكن خيط الوصل بيني و بينهم لم ينقطع قط. هاجروا عني بأجسادهم لكني لم أهجر أبداً أفكارهم... ظللت دائماً حلماً في العقول و أملاً في القلوب....ظللت دائم الحلم بأن استعيد عافيتي فأوقف جور إخوتهم وأعيدهم إلى حضني. و هم أبداً لم ينقطعوا عن البحث عن دواء يعيد لي عافيتي ليعودوا إلى حضني.
لم أسألكم يوماً من أنتم لأني أعرفكم جيداً فأنتم أحفاد فلان و فلان و فلان من أبنائي الذين خرجوا من صلبي، الذين صبروا و صابروا. الذين نقشوا رسوماتهم على جبال أكاكوس، الذين جابوا الصخر و الواد، الذين قطعوا الفيافي في سبيل حفنة تمر يُسكتون بها ثعبان جوع قاهر يهدد أطفالهم... الذين حموا ديارنا من غزو الطامعين على مر السنين، الذين حفروا الجبال في شرق البلاد و غربها ليقوا أطفالهم برد شتاء و حر صيف لا يرحمان.ابنائي الذين لم يردعهم الجوع و العطش و مخاطر الترحال عن تلقي العلم في مشارق الأرض و مغاربها،  فلما تلقوه لم يبخلوا به فراحوا ينشرونه في كل نجع و كل مِصر. و ها هي قبورهم على كل تل و فوق كل رابية تظل شاهداً على ما فعلوا في سبيل إخوانهم.
أعرفكم جيداً أبنائي، فحتى أيام مرضي و عندما سيطر الأشرار منكم على خيراتي و حرموكم أنتم الطيبين منها، رغم ذلك ورغم جور الزمان و جور بعضكم على بعض، لم يتنصل و لم
ينكرني أحد منكم. برغم ما الصق بي من تهم و افتراءات بعجزي و عجز أبنائي و شرور بعضهم.     
عيرني الأقارب  ببعض أبنائي الذين باعوا الغالي بالرخيص و ارتضوا حياة الدعة في ذل، على حياة الشرف في ظل شغف من العيش . إلا أنني لم أغنط و لم يعتريني اليأس يوماً.
عيرني الأغراب بتخلف أبنائي و اعتمادهم على ما وجدوه من مال وذهب أسود، دون أن يفكروا في تنمية ثروات حقيقية أملكها هي أرض و بحر و صحارى و سماء تجود بالخير طيلة فصول العام لو جاد عليها أبنائي بيد تحمل معول و عقل يتدبر ثروة أبيه الحقيقة. لقد لامني و لامكم و لسنوات جميع الناس، الأقارب و الأغراب و حتى نساء بعضكم توجهن باللوم إلى أزواجهن. أما أنا فلا ألومكم أبنائي فالحل و العقد كان بيد البعض منكم الذي لم يكن ليتدبر سوى في تهميشكم و إحاكة المؤامرات لمن فكر في مساعدتي للتشافي من مرضي لتستمر غيبوبتي أطول و أطول و أعمق و ليتعمق نسياني حتى أتلاشى داخل عقولكم.
أبنائي لم أعتب على من باعني منكم عندما كنت في تلك الغيبوبة الطويلة و الذين تصفونهم اليوم بالمتسلقين . لكني اليوم أعتب عليكم أنتم أبنائي الحقيقيين يا من ترفعتم على أن ترثوني قبل أن أموت، و ضحيتم بكل غالٍ و رخيص لتعيدوا إلي عافيتي. وها أنا اليوم و قد تعافيت، أراكم تباعدتم عني لتلهثوا وراء مصالحكم الشخصية و تتركوا والدكم. ليشاحن أحدكم الآخر، و ليلاعن بعضكم بعضاً فما عدت أرى منكم سوى سيئاتكم، حتى كاد البعض منكم ينسى إخوتكم الذين قضوا، و هم يكافحون في سبيل الحصول على دواء يشفيني.  
عودوا إلي أبنائي.... و ترفعوا ... ترفعوا.... ترفعوا....
-----------------
 ملاحظة: الوطن يبعث برسائله للجميع ، لكل مواطن رسالة، و هذه هي الرسالة التي خصني بها الوطن. ترقبوا رسائلكم... لكن لا تنتظروا  ساعي البريد، فالوطن لا يكتب رسائله بالمداد. فقط أنصتوا جيداً... ستسمعون رسالة الوطن تنبع من داخلكم من أعماق النفس الطيبة. إذا وصلتكم رسالة من وطنكم... فلا تبخلوا علينا بمشاركتكم قراءتها.
للتواصل : Hamsam3@hotmail.com

الفرح بنهاية عرس


الفرح بنهاية عرس

د. حمد الرقعي
اتخذ الحاج ارحيم- والد العريس ـ له مجلساَ على حجر بجانب أحد الجدران وأخذ يحصي خسائره و أرباحه بعد معركة العرس. أحصى الشياه التي ذبحت، و أجار الخيمة التي ما تزال منصوبة حتى اليوم وأجرة أسراب اللامبات التي لم توقف وميضها لا في ليل و لا في نهار، لتنبه كل مارٍ بأنه في دار الحاج إرحيم عرس، و لتهدي كل من هب ملبيا أو دب مصادفة إلى ولائم الحاج إرحيم التي لم تتوقف منذ أسبوع لا في غداء و لا في عشاء. إلا أن ما كان يشغل باله أكثر هو الديون التي كان يسجلها عليه صاحب الدكان في الحارة المجاورة الذي لا يُغفل شاردة و لا واردة، حتى الأطفال يأخذون منه البالونات و الألعاب النارية، و كله يسجل على ظهر الحاج إرحيم بمناسبة الفرح. حتى أطفال الحارات المجاورة كانوا يأخذون من المحل كل ما تلمحه أعينهم، و كله على حساب الشيخ إرحيم.
 في الليل كانت الزمزامات عند النساء، و جماعة الزكرة عند الرجال، و الغياطة في نهاية الشارع. و بانتهاء السهرة كان على الحاج ارحيم تسديد فواتير كل هؤلاء، و عليه ألا يشتط أو يراوغ في الدفع لأنهم لم يأتوا إلا إكراماً لأبنه و فرحاً لفرحه.
في أخر الليل و عندما يغادر الجميع إلى بيوتهم، يدخل الحاج ارحيم الخيمة ليأخذ قسطاً من الراحة، لكنه لم يكن ليهنأ في نومه، كما هو حال كل ليلة من ليالي الفرح، إذ تنصب الحجارة من كل اتجاه على الخيمة و البيت. حجارة يرمي بها أحد أولاد الجيران، يقال أنه كان له مأرب في العروس التي تركته و اختارت ابن الحاج ارحيم، فلم يجد هذا الشاب من خيار أمامه سوى رمي البيت و الخيمة بالحجارة رغم علمه أن ذلك لم يكن ليفيد بشيء.والحاج ارحيم لم يفعل له شيء بل و ألجم من أراد من الشباب أن يفعل له شيء، و كان تبريره أن ذلك يأتي في إطار المصالحة مع الجيران.
في مساء اليوم السادس و ربما السابع أو الثامن، خرج العريس. نظر إليهم جميعاً. نظر إلى من يغنون ومن يأكلون و من يتغامزون و إلى الأطفال يلعبون، ثم نظر إلى والده الذي كان يستند إلى أحد الجدران و يحرك أصابعه محصياً شيئاً ما.مشى بخطوات وئيدة لكنها ثابتة، توقف أمام الخيمة، و صرخ بأعلى صوته: خلاص...خلاص...انتبه إليه الجميع، أصحاب الزكرة و الغياطة و الذين انتهوا من طعامهم للتو، و الذين كانوا يتحلقون حول الكارطة، والأطفال يحملون البالونات بين أيديهم. حتى الزمزامات خرجن من خيمة النساء ليعرفن ما يحدث.
واصل بذات النبرة: العروس جبناها... و كل واحد يشقى بحياته....
في الصباح، نهض العريس مبكراً يحمل بيده كيساً أخذ يجمع به الحجارة المتناثرة حول الخيمة و أمام البيت، انضم إليه شباب العائلة - الصبّايا الذين يربطون المناشف حول رؤوسهم- و أخذوا يساعدونه في جمع الحجارة.  عندما انتهوا، التفت إليهم و قال لهم : تعلموا من الأطفال.. جميعهم ذهبوا إلى مدارسهم... أفهموها لقد انتهى العرس . من داخل البيت سُمعت زغرودة مدوية...كانت العروس تزغرد معلنة نهاية العرس، و بداية الفرح الحقيقي.
أوقفوا المتنمرين الجدد
د. حمد الرقعي
بعد نجاح الثورة في ليبيا و بعد مرور أشهر على إعلان التحرير، أمسينا نرى الكثير من الأفراد و بعض من الجماعات يأتون بتصرفات تجعل البعض يشكك في ولاء بعضهم للثورة و تؤكد عداء البعض الأخر لها، و تفضح انحياز هؤلاء لمصالح شخصية أو فئوية على حساب مصلحة الوطن.
إن ما نراه اليوم في بعض المناطق من ليبيا هو نوع من التنمر bullying الذي يهدف إلى فرض السيطرة على الآخر باستخدام السلطة و المال في بعض الأحيان و القوة في معظم الأحيان.
إذا أردنا أن نعرف الأسباب وراء هذا فعلينا الرجوع إلى الدراسات النفسية التي تبحث ظاهرة التنمر ، إذ تُرجع هذه الدراسات التنمر عند الأطفال إلى  محاولة للفت انتباه الآخرين إليهم. و قد يعمد الطفل إلى تدمير أشياء البيت للفت الانتباه إليه أو لتحقيق مطالبه، و قد يتخذ من التهديد بتكرار هذه الأفعال وسيلة دائمة للضغط لتحقيق أهدافه، خاصة إذا رأى هذا يُحقِق له بعض النتائج.
بعض المدن أو القبائل و نتيجة و قوفها بالكامل أو جزئياً ضد ثورة 17 فبراير في البداية ، تجد نفسها اليوم في وضع المهمشة – في نظر رجالاتها- الأمر الذي يولد لديهم شعوراً بالانتقاص الذي يعتبر وفق الدراسات النفسية كأحد أهم الأسباب المؤدية للتنمر. مما يدفع هؤلاء للقيام بتصرفات يصعب تفهمها عقلياً و منطقياً كعجزنا عن فهم قيام الطفل بتحطيم أشياء البيت للفت الانتباه إليه. لكن الأخطر هو حصول الطفل على ما يريد بتهديده بتحطيم الأشياء. فموافقتنا له و مسايرتنا إياه قد يجعلاه يواصل انتهاج ذات المسلك على الدوام.
ان الوضع الراهن في ليبيا و التهديدات التي تتربص بها، توجب على المجلس الوطني و الحكومة الانتقالية و الجيش الوطني تحمل مسئولياتهم اتجاه حماية مستقبل هذا الوطن، بمنع التنمر مهما كانت أشكاله و مستوياته قبل أن يعم و يخلق المزيد من المتنمرين. و يجب ألا يُسمح – من خلال القنوات الشرعية و أدواتها – لأي متنمر أن يُحقق أي من أهدافه مهما صغرت لأن هذا سيكون دافعاً لمزيد من التنمر و قد يكون مبرراً لظهور متنمرين جدد.
لقد سئم الشعب الليبي النمور الورقية التي تحكمت به لأمد ليس بالقصير، و لن يرضى هذا الشعب الأبي بأي متنمر جديد مهما كانت طويلة مخالبه. لذلك على أولياء الأمر في الدولة الليبية الجديدة تحمل مسئولياتهم بالضرب بيد من حديد لكل من تسول له نفسه أو من يسول له أسياده التنمر على الشعب الليبي بأي صورة كانت . و أعتقد جازماً أن تقاعص المجلس الوطني أو الجيش الوطني عن القيام بدوره في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ ليبيا، هو تنصل من مسئولياتهما التي أناطها بهم الشعب الليبي، و عدم تدخلهما أو مماطلتهما كما حدث في الأيام الأخيرة من الحرب ضد الطاغية مما كلف الثوار مزيداً من الشهداء في سبيل إرضاء فئة معينة.
إن هذا سيؤدي إلى تدخل الشعب بأكمله من جديد لإيقاف سياسة التنمر عبر ثورة جديدة.  



للتواصل : Hamsam3@hotmail.com