حمد الرقعي
(وَلَمَّا
فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ
تُفَنِّدُونِ)[1]
قال الشيخ محمد الشعراوي في كتابه قصص الأنبياء
و المرسلين: لأن القافلة الكبيرة لما غادرت المدينة التي كان يقيم فيها يوسف, كانت
تضم عدداً كبيراً من الناس
فكانت
رائحة يوسف مختلطة بروائح كثيرة, كما أن مباني المدينة كانت تحجزها، فلما خرجت القافلة من
المدينة, و انقسمت إلى مجموعات صغيرة، أوصل الله رائحة يوسف إلى يعقوب عليهما
السلام.
كيف تيسر لسيدنا يعقوب أن يجد ريح ابنه على
مسافة طويلة قبل أن يصل القميص إليه؟
يحدثنا
علماء الفسيولوجيا اليوم عن وجود أثر في الدماغ خلف فتحتي الأنف لعضو ضامر يسمى
العضو الميكعي الأنفي أو عضو جاكبسون vomeronasal الذي اكتشفه فردريك رويش ولاحقا لودفيغ جاكبسون [2] عام .1813 كان هذا العضو في يوم من الأيام يلتقط الإشارات
الكيميائية البعيدة الصادرة عن أشخاص آخرين. فكان هذا العضو الذي لم نعد نجده اليوم
يلتقط الإشارات الكيميائية التي يفرزها أشخاص آخرون، فيحلل هذه الإشارات للتعرف
على صاحب الرائحة المصدرة للإشارات الكيميائية.
هذه
الخلايا العصبية كانت فعالة منذ آلاف السنين، لكنها فقدت حساسيتها مع الزمن ولم
يعد لها مفعول يُذكر، ويؤكد العلماء أن هذا العضو كان مستخدماً بفعالية كبيرة لدى
البشر في عصور سابقة.
هذا عن المستقبِل أما بخصوص المرسِل – مصدر
الرائحة – فقد توصل باحثون أميركيون في الحقل النفسي عن طريق تجربة علمية نشرت
نتائجها في مجلة Nature إلى أن الروائح الجسدية موجودة فعلاً، حيث أن الجزئيات ذات الروائح الصادرة
عن مواضع معينة في الجسم تسمح للكائنات المنتمية للنوع الواحد بالتواصل عن بعد. فالحشرات والحيوانات الثديية تتخذ من
هذه الروائح وسيلة تحدد بها مناطقها الخاصة و تتعرف على المجموعات التابعة لها، و
تبعث إناث الثدييات رائحة خاصة في مرحلة الإباضة لتدل الذكور على الوقت المناسب
للتزاوج والإنجاب. و لاستشعار هذه الروائح تستخدم الثدييات الأنف الخفي أو العضو الميكعي الأنفي أو عضو جاكبسون Vomeronasal الموجود في تجويف واقع في مقدمة المادة المخاطية
الشمية في الأنف، و يقوم باستقبال الروائح التي يعجز عن تحديدها الأنف الطبيعي.
و
قد أظهر أحد الأبحاث الذي أجري في هذا المجال أن القطط تنتج إشارات كيميائية في
صورة روائح من شأنها أن ترعب الفئران. فعندما تلتقط الفئران إشارات ناتجة عن
بروتينات معينة توجد في لعاب القطط وبولها يكون ردة فعل الجرذان الخوف الشديد. إذ
أن هذه الروائح تؤثر على الخلايا الموجودة في عضو جاكبسون لتصل الدماغ مما يجعل
الفئران تُظهر أعراضاً مثل التجمد من الخوف أو الالتصاق بالأرض و تقوم بحذر بالشم
والتحقق من محيطها.
و
للتأكد من دور عضو جاكبسون في رد فعل الفئران اتجاه القطط، قام العلماء بإزالة هذا
العضو لدى بعض الفئران ثم وضعت في مواجهة قط حي لكنه مخدر، و كانت النتيجة مثيرة
للدهشة، إذ لم تبدي الفئران أيما فعل يدل على الخوف مع أنها رأت القط أمامها
تماماً. بل أن أحد فئران التجربة ذهب للنوم بجانب الجرذ, حيث أن جو الغرفة كان
بارداً، و أراد هذا الفأر أيما مصدر للدفء و إن كان عدوهم اللدود القط.
و
في سبيل معرفة أي أثر مشابه للروائح بين بني البشر، عُمد إلى تجربة تم فيها تبليل قطع قطن بعرق 9 نساء، ثم طلب
من 20 امرأة أخرى أن يبللن شفاههن بمحتوى القطن بشرط عدم غسل وجوههن لمدة ست
ساعات. كررت هذه التجربة يومياً لمدة 4 أشهر بعد تقسيم مجموعة النساء إلى فئتين
،الفئة الأولى تشم عرق نساء في النصف الأول من الدورة الشهرية ، و الفئة الثانية
تشم عرق نساء في النصف الثاني من الدورة الشهرية. فكانت النتائج أن النساء
المنتميات للفئة الأولى، ارتفع معدل إفرازهن للهرمون اللوتيني ( LH ) فلاحظن قصر الدورة الشهرية . أما النساء المنتميات للفئة الثانية، فقد
تراجع معدل إفرازهن للهرمون اللوتيني، مما أدى إلى إطالة الدورة الشهرية. كانت هذه
هي المرة الأولى التي يظهر فيها تأثير الافرازات البشرية التي لا يعيها الأنف
البشري . وهذا ما يفسر حصول التزامن في الدورات الشهرية لبعض النساء اللواتي يتشاركن
ذات المكان.
فالعلماء
اليوم يعتقدون بوجود إشارات كيميائية يتم تبادلها بين البشر، ويحاولون استكشاف هذه
الإشارات و دراسة تأثيراتها، ويعتقدون بوجود مواد كيميائية تميز كل إنسان عن
الآخر، فلكل منا رائحته المختلفة عن الآخرين، حتى إنه يمكننا القول بأن لكل إنسان
بصمة كيميائية تتمثل في أن جسده يفرز مواد محددة تختلف عن أي إنسان في العالم،
وتبقى هذه الرائحة مرافقه له منذ ولادته وحتى الموت.
و يتم
استقبال هذه الإشارات الكيميائية بواسطة جزيئات تسمى TRP متواجدة على الخلايا العصبية، وعندما تأتي
المواد الكيميائية التي يطلقها إنسان آخر فإنها تندفع عبر الجزيئات
TRP وتسبب تغيراً في توتر
الخلية (الطاقة الكهربائية المختزنة في الخلية)، فترسل الخلية إشارات كهربائية إلى
الدماغ يحللها الدماغ كتحليله للإشارات الواردة من العين أو الأذن.
والآن لنعيد
تأمل الآية الكريمة من جديد في ضوء ما
ذكرناه، فقد أحضر إخوة يوسف قميصه المحتوي رائحته، هذه الرائحة انتقلت مع الريح
لتصل إلى أنف سيدنا يعقوب قبل أن تصل القافلة.
وبما أن الدماغ
البشري كان يملك قدرة كبيرة على تحليل الإشارات الكيميائية أو الروائح، فإن سيدنا
يعقوب استطاع تذكر رائحة ابنه الذي مضى على غيابه عشرات السنين، بينما بقية أفراد
العائلة لم يصدقوا ذلك، إذ أن الجميع يظن بأن يوسف قد أكله الذئب، ولذلك قالوا له:
(قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ )[3]
و لكن
لماذا لم يجد الآخرين ريح يوسف، ربما كان اعتقادهم بموت يوسف حاجباً لأي رسالة
تقوم حواسهم باستقبالها بأن يوسف لا يزال حياً. أما سيدنا يعقوب عليه السلام، فلم يصدق يوماً موت
ابنه، و كان على الدوام في انتظار رسالة منه، الرسالة التي أتت أخيراً في صورة رائحة يوسف، لذلك
قال سيدنا يعقوب أنه وجد ريح يوسف و لم يقل بأنه قد شمها، لأن سيدنا يعقوب قد وجد
فعلاً هذه الرائحة، وتعرَّف عليها جيداً لأنه كان يبحث عنها طوال سنوات، وهذا يدل
على الثقة الكبيرة لسيدنا يعقوب بهذه الرائحة.