2011/12/19

عندما كان الذئب راعياً

    عندما كان الذئب راعياً
منذ زمن ليس بالقريب، و حالما تجاوز تفكيري الأشياء الصغيره، أخذت الأسئلة تتسلل من رأسي لتظهر ككلمات على لساني. لكن كان هناك دائماً من يخنق الأسئلة لتعود مدحورة، لتتخذ لها متكئاً مع كثير الأشياء المخنوقة التي لا أبوح بها. كان أكثر الأسئلة إلحاحاً، تتمحور حول موضوع واحد أو كائن واحد وهو كلب أبي.
لمن رآه من بعيد، ولم يعرفه عن قرب كان ليعتبره ككل الكلاب، إذ له ذات الصورة، و لا يختلف نباحه عن صوت باقي الكلاب. لكن الأمر كان مختلفاً بالنسبة لنا نحن الذين عاصرناه و عايشناه يوماً بيوم.
بالنسبة للآخرين كان مجرد كائن، أما نحن فلم يكن الأمر بتلك البساطة. لقد جعلته الأقدار لنا موضوعاً يشغل حياتنا بكاملها و يكاد يمتد لأدق تفاصيلها، حتى صرنا و كأننا مجرد هوامش لهذا الموضوع.علاقتنا بهذا الكلب، كانت علاقة غريبة لم أرى لها مثيلاً، و لم أجد لها تفسيراً رغم محاولاتي المتكررة، و أسئلتي الأكثر تكراراً، كانت إجابات امي المتهربة، و تحليلات جدي الهلامية تعيد أسئلتي مقهورة دون الظفر بجواب شافٍ.
كان علينا أن نطعمه و ننظفه، والويل لمن أزعج الكلب في قيلولته، إذ يلقى النباح والهياج من الكلب، والويلات المتلاحقة من أبي، هذا لمن أعطته الحياة قسط من حظ، أما من كان في يوم نحسه فقد لا يكتفي الكلب بتمزيق ثيابه و تمريغه في التراب، إذ قد يطاله بعضة أو عضتين في يد أو ساق.
في ليالي الشتاء الباردة، كنا نرغم على استقباله لينام بيننا، و كما لم يكن لنا خيار في قبوله، لم يكن لنا مناص من قبول من يُحضر معه من كلاب الجيران، يتجولون في بيتنا جيئة وذهاباً، يأكلون ما يحلوا لهم ويلعبون بما طالت أيديهم ـ أقصد أرجلهم – و قد يدمرون بعض أشيائنا، و في النهاية يخرجون دون أن يأسفوا عما فعلوا، و نحن نقف مشدهوين مذهولين دون أن ننبس ببنت شفه، خشية غضب أبي .
ألم أقل لكم إنها علاقة غريبة علاقتنا بهذا الكائن، علاقة لم أجد لها تفسيراً واحتار عقلي في تدبرها. ربما كان أبي من أراد للعلاقة أن تكون على هذا المنوال، و ربما لم تكن إرادة بل هو رضاً بما وجد، وربما لم يكن رضاً لكنه قبول العاجز عن الرفض، و ربما كان الغصب وراء القبول بهذه العلاقة. و لأن أبي لا يرتضي الاعتراف بالهزيمة حتى أمام القدر، كان عليه أن يجد المبررات، كان أبي يقدم العلل دائماً للآخرين لتبرير هذه العلاقة الغريبة، فمن لم تقنعة الحُجة أقنعته حَجَة أبي – التي يتحدث عنها الجميع رغم قدمها- فمن لم تقنعه هذه و لا تلك كانت عضة من الكلب أو عضتين خير مقنع له.
كررت سؤالي دائماً، و قدمت عرائض احتجاجي عند أبي دون جدوى. احتجت أمي ذات يوم فطردها، احتج جدي فتوفي، ووفاة جدي كانت أكثر غرابة، إذ لم تُستخرج له شهادة وفاة، و لم يُقم له العزاء، و لم يُعرف مكان دفنه حتى اليوم.
حتى عندما قام بقتل إحدى شياهنا، غضب منه أبي لكنه لم يقم بطرده أو حتى عقابه.
أخبرته ذات يوم بأني رأيته يلعب مع الذئاب التي تأكل أغنامنا فلم يأبه بذلك، و تنهت دون أن يقول شيئاً.
ذات يوم رآه بنفسه يقتل إحدى الشياه و يجرها على الأرض ليختفي بها خلف التلة، تبعناه فرأينا العجب العجاب، لقد كان يجر الشاة التي قتلها ليرمي بها أمام الذئاب التي كانت تنتظره. طردني أبي و لم يسمح لي بمتابعة ما سيحدث. ظننته سيقتل الكلب. في المساء عاد الكلب إلى البيت،ثم تبعه أبي و كأن شيئاً لم يحدث.
في ليالي الشتاء الباردة، كان يندس بيننا، يزاحمنا فراشنا، و يفتك منا ما نتقي به برد الشتاء، و مع مرور الوقت أخذ يأتي برفاقه من الكلاب و الجراء إلى بيتنا، فنجد أنفسنا مضطرين للاكتفاء بإحدى زوايا البيت لننام فيها. تارة نُقنع أنفسنا بأننا نبتعد عن رائحتهم، و تارة نقنع أنفسنا بأن عقولنا أكبر من التشاجر مع كلب. لكن الحقيقة التي لم نكن نعترف بها، حتى بين المرء و نفسه هي إننا كنا مرغمين على الانزواء في تلك الزاوية من البيت.لكننا دائماً نكابر، وحتى لو سألتموني اليوم عن سبب ذلك، فلا تستغربوا لو أخبرتكم إن ما كنا نفعله كان ابتغاء مرضاة أبي.
استمر الحال على ما هو عليه كل شتاء حتى جاءت تلك الليلة، حين وجدنا أنفسنا خارج بيتنا. في تلك الليلة لم يأت الكلب بمفرده، و لم يكتفي بإحضار الكلاب معه. لقد جاء تلك الليلة و معه الذئاب. خرجنا دون أن نفكر حتى مجرد التفكير في البقاء داخل البيت، و الأدهى من ذلك أننا لم نفكر في مصير بيتنا و نحن نخلفه ورائنا.
فيما بعد، و قبل غروب الشمس بقليل، أرعدت السماء و أبرقت، ثم نزل مطراً مدراراً لم أشهد له مثيل من قبل، و كذلك قالت أمي. كان المطر يشتد كلما علا عواء الذئاب و نباح الكلاب.
الغريب في الأمر و لأول مرة في حياتي لم يزعجني عواء الذئاب ولم يخيفني نباح الكلاب، و لم أشعر بالبرد رغم قساوته. لم ننم تلك الليلة، رميت الغطاء جانباً، و صعدت إحدى التلال، وكذلك فعل من كان معي، رفعنا أكفنا للسماء دون أن نأبه بالمطر و شدته، نتحسس البرد المتساقط .
حدث الكثير من الأشياء الغريبة تلك الليلة، أحسست لوهلة و أنا أمد يدي أنني ألمس السماء، لم يكن ذلك مجرد إحساس، لقد لمست السماء بيدي حقيقة. و لأني أعرف أنكم لن تصدقوا هذا، فلن أواصل سرد المزيد من الأشياء الغريبة التي حدثت تلك الليلة.
... استمر المطر في الهطول، و تكونت سيولاً صغيرة تلاقت فكونت سيلاً هادراً بقوة صوت الشعب الثائر.كان السيل شديداً جرف كل شئ البيت والكلب والذئاب.
كان ينام مدّثراً في فراشنا مستشعراً الدفء و الأمان غير هياب لما حوله غير متوقع أن يكون المطر بهذه الشدة. لكن السيل وصل إليه في غفلة منه. حاول مقاومة السيل الهادر بكل قوة، استخدم جميع نظريات العزوم والطرد المركزي وما استفاده من لعبة عض الإصبع، لكن كل ذلك لم يفده في شيء، إذ حمله التيار ورمى به في قعر الوادي السحيق، وادي جهنم.
أعرف أن البعض منكم يستغرب روايتي هذه، و يمكن للبعض أن يصارحني بأنه لم يصدقها. لكن صدقوني أنه لم يكن لهذه الأسطر أن تُكتب لو كان حياً.

ليست هناك تعليقات: