2011/12/19

قصة ليست للأطفال (1)    

كان ياما كان في قديم الزمان ، و ربما أقرب من ذلك قليلاً و ربما كثيراً. فذلك يعتمد على زمن الراوي، فمن رواها غداً سيقول حدث بالأمس، و من سيرويها بعد سنوات أ وعقود فسيقول حدث في قديم الزمان، أما من قص ذلك بعد ألف عام فسُيحدث بأنه حدث في غابر الأزمان.
كان هناك قبطان يقود سفينة صيد، يجوب بها البحار، يصطاد هنا وهناك. يُسخر لخدمته على ظهر تلك السفينة صيادين من الفقراء. يقال أنهم ما كانوا فقراء، بل كانوا ملاك أعظم سفينة صيد في البحر. و كما تُعاكس الأنواء الصياد عاكستهم الحياة، فصاروا بين ليلة وضحاها سخرة على السفينة التي كانوا يملكون. إذ يقال أنه وبعدما تلبدت سماء حياتهم بسحب سوداء من الفقر و الحظ العاثر، اضطرتهم ظروفهم لبيع سفينتهم تلك، لرجل لا يفقه من أخلاق البحر شيئاً. اشتراها منهم بحفنة من عملة ذاك الزمان، لم تكن كافية بأي حال لإصلاح حال إيٍ منهم. ليجدوا أنفسهم على ظهر سفينتهم من جديد، ليس كملاك لها، بل كعمال يكدون من الفجر حتى مغيب الشمس مقابل حفنة من دراهم لا تُغني و لا تُشبع من جوع. القبطان لم يكن يمتلك من أخلاق البحر شيئاً، أما هم كانوا يعرفون هذه الأخلاق جيداً، إذ لم يبتدعوها و لم يدعوها ، بل رافقتهم منذ الصغر، لا يستطيعون التخلص منها أو التخلي عنها، بل إنهم يحرصون عليها كل الحرص حتى يورثوها لأبنائهم.
في البداية و جدوا أنفسهم على طرفي نقيض مع قبطانهم الجديد الذي لا يعرفونه، و لا يعرفهم، و لا يعرف من أخلاقهم شيئاً. حتى إنه كان يختم سيل شتائمه اليومي بسؤالهم: من أنتم؟
كانوا يشمئزون من ذلك كل الاشمئزاز، و يمتعضون كل الامتعاض. لم يعترض منهم سوى الشبان الذين لم تأسرهم أكبادهم اتجاه أبنائهم بعد، و كان هؤلاء يلقون العقاب في ذات اليوم الذي فيه يعترضون. تصاعد العقاب من الشتائم إلى قطع القوت عنهم إلى منعهم الدراهم الزهيدة التي يتقاضون. فمن لم يردعه ذلك عن مقارعة القبطان، كان مصيره الرمي في البحر ليعود إلى اليابسة سباحةً. و هناك من تحدث عن شباب صعدوا السفينة فلم تطأ أقدامهم الأرض بعد ذلك أبداً. هذا عن الشباب، أما كبار السن فكانوا يكتفون بالهمهمات و الهمسات فيما بينهم. الأمر الذي توقفوا عنه حينما أدركوا إن أذني القبطان تسمع كل شيء، و يداه يمكن أن تبطش بأي أحد مهما صغُر ذنبه.
كانوا يصعدون ظهر السفينة قبل صياح الديك، فلا تعود بهم إلا و أهل المدينة قد ناموا. فكانوا بمرور الزمن ينسلخون عن مدينتهم شيئاً فشيئاً. ماعادوا يعرفون منها سوى ذلك الميناء البائس، و تلك الطرق المؤدية إلى بيوتهم. لقد قطعهم عن مدينتهم، حرمهم رؤية اطفالهم يكبرون، تحولوا إلى تروس تدور مكانها، فمن توقف عن الدوران ركله ليسقط في قعر البحر.تروس تدور داخل آلة القبطان، بعيداً عن دائرة الفعل.
كان يمكن أن يستمر بهم الحال إلى الأبد. لولا بصيص من نور يلمع في السماء، لم يستشعره القبطان أبداً.
ذات ربيع سمعوا خبراً جعلهم يتعاضدون لأول مرة في غفلة من القبطان، سمع القبطان الخبر، لكنه لم يظن علاقة للربيع بالبحر فلم يهتم، تعاضد الفقراء فرفعوا أياديهم إلى السماء في ذات اللحظة، سائلين المدد... انتبه القبطان... أدار الدفة بعنف لعلهم يسقطون، لكن أقدامهم كانت ثابتة وأكتافهم كانت متراصة. خرج عليهم بسوطه الطويل، ضربهم بشدة، لكن ما من أحد منهم تزحزح من مكانه، و ما من أحد توقف عن طلب المدد.
هطل المطر بشدة، اكفهر وجه القبطان، أطلق عليهم كلابه، و ما من أحد منهم يتزحزح من مكانه. كانت الكلاب تهاجمهم بشدة، و كان اللحم يتناثر من أجسادهم على سطح السفينة، و ما من أحد توقف عن طلب المدد.
افتعل القبطان ثقباً في السفينة لعلها تغرق بهم، لكن حيلته لم تُفلح، فما كاد الماء يتسرب للسفينة حتى تدحرجت إحدى القطع البشرية المتناثرة، و أغلقت الثقب مانعة تسرب المزيد من الماء. بحنق سحب القبطان تلك القطعة من الثقب، و رمى بها في البحر، لكن قطعة أخرى تدحرجت في الثقب و أغلقته. واصل القبطان ذات الفعل بصورة هستيرية، حتى نال منه التعب و أُنهك ، و سقط مغشياً عليه.
دوت الزغاريد في كل مكان، و عم البِشر جميع الوجوه، و نام كل صياد تلك الليلة بقدر أكبر من الأحلام، و كم أكثر من الأمنيات. لكن أحداً منهم لم يفكر تلك اللحظة، في سفينتهم وهي في عرض البحر تتقاذفها الأمواج.
في اليوم التالي و ربما اليوم الذي يليه و ربما بعد أيام، أدركوا وجوب تدارس أمرهم، فالنقود التي معهم تكاد تنفذ، و ربما نفذت عند البعض.التقوا في ساحة المدينة ، حاولوا الوصول إلى رأي يوحدهم أو حتى كلمة تجمعهم، لم يكن ذلك بالسهل عليهم، فتذكروا السهولة التي أجمعوا فيها على رفع أيديهم للسماء. بعضهم تذكر كيف كان القبطان يتخذ قرارات قهرهم و ذلهم بكل سهولة. اجتمعوا طويلاً ثم تفرقوا...اجتمعوا ثم تفرقوا.... اجتمعوا فتفرقوا... كان منهم من يعرف ما سيفعل بعد فض الاجتماع أكثر مما يعرف عما يفيدهم في تجمعهم. كان مجرد تجمعهم و تحاورهم يراه الناظر عن بعد شيئاً عظيماً ، أما هم فكانوا دائمي التوجس خيفة من الآتي. البعض تحدث عن تدخل الصيادين من غير أصحاب السفينة، و البعض تحدث عن أجندات رُسمت من أناس من خارج المدينة.
تواصلوا الحيص بيص حتى جاءهم رجل ذات صباح، لم يكن غريباً عنهم، كان أحد فقراء السفينة، قال لهم دعونا نعمل، دعونا نذهب إلى الشاطئ لنرى ماحل بالسفينة. نظروا إلى بعضهم متسائلين الغفلة التي هم فيها، والتي شغلتهم عن سفينتهم، مصدر رزقهم و سر حياتهم. جمعوا بعضهم و اتجهوا الى الشاطئ لا يلوون على شئ، عندما وصلوا إلى الشاطئ رأوا سفينتهم كومة من الأخشاب تتلاطمها الأمواج. نظروا إلى بعضهم، ابتسم كل منهم للآخر، شمروا عن سواعدهم، و اتجهوا الى السفينة المدمرة لإعادة بناءها... يعرفون أن ذلك يحتاج الكثير من الوقت والجهد لكنهم أدركوا إن البداية يجب أن تكون اليوم.... قبل أن يولد قبطان آخر.

شكراً لهذه الأيادي

شكراً لهذه الأيادي
أكثر من ثمانية أشهر عجاف مرت على الشعب الليبي، كانت شديدة القسوة على المجتمع بكل فئاته صغاراً و كباراً، رجالاً و نساءً، و في كل أرجاء الوطن من شماله إلى جنوبه و من شرقه إلى غربه. لم تكن المأساة متوقعة في أي مكان، ولم تكن متقوقعة في مكان واحد كل الوقت ، بل كانت الحاجات ممتدة عبر كل الوطن و طيلة الثمانية أشهر، و إن تغيرت طبيعة الاحتياجات من مكان إلى آخر و من وقت لآخر.

منذ اليوم الثالث للثورة تنادت الأيادي الخيرة لتقديم العون للشعب الليبي عبر الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخيرية و حتى المبادرات الشخصية من الليبيين في الداخل و الخارج و من الأشقاء في الدول العربية و الإسلامية.

لقد مثل الوضع الإنساني للشعب الليبي تحدياً كبيراً لأغلب العاملين في هذا المجال، إذ أن معظم الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخيرية تعتمد أساس التعاون مع السلطات المحلية في عملها،الأمر الذي ظل مفقوداً طيلة الشهر الأول من الثورة. كذلك اتساع الرقعة الجغرافية لليبيا و طول الطرق وافتقار الأمان في الطرق الصحراوية بعض الأحيان زاد من صعوبة تنقل أعضاء البعثات الإنسانية، و نقل المواد الإغاثية. كذلك شكل انقطاع التيار الكهربائي في بعض المناطق و عدم وجود الأماكن الملائمة مشاكل في التخزين. كما أن تخلخل الأداء المصرفي وانعدام خدمات التحويل بين المدن و مع العالم الخارجي خلق مشكلة لوجستية أعاقت العمل.

لم تتعدد الاحتياجات في أي كارثة كما تعددت خلال الأزمة الليبية، ابتداءً بعائلات نزحت تحتاج إلى مأوى كأهالي مدينة اجدابيا في بداية الأزمة، وأهالي مدينة سرت في نهايتها، و بين البداية والنهاية كانت عائلات مصراتة والزنتان والبريقة و بشر و مرادة وغيرها. لم يكن مجرد عدد محدود من العائلات تهدمت منازلها فنزحت،، بل هي مدن بكاملها يعمها الرعب فتنزح، و ترعب القذائف نساءها و اطفالها فيهرعون بلا زاد يبحثون عن مأوى لهم. و حالما تحط بهم الرحال في مكان ما كانت الحاجة للماء و الغذاء، للغطاء والدواء. و لم يكن هذا الاحتياج محدود بزمن، فالبعض قد تجاوز نزوحهم الستة أشهر.

بالإضافة إلى هذه الاحتياجات كان تقطع سبل التواصل بين العائلات و حتى بين أفراد العائلة الواحدة مشكلة زاد في تعقيدها انقطاع الاتصالات الهاتفية و توقف حركة الطيران و قطع الطرق البرية نتيجة المعارك. و كأن هذا لا يكفي فزادوا الأمر سوءً بزرعهم الألغام بمعدل لغم لكل عائلة.

فشكراً للجمعيات الأهلية و المؤسسات الخيرية التي لم تثنها هذه العوائق عن آداء مهامها الإنسانية.

البعض تخلف عن تقديم المساعدة لاعتقاده بعدم الحاجة لخدماته، و اعتماداً على معايير خاصة اعتبرت الشعب الليبي قادراً على تخطي أزمته بنفسه ، لكن و عندما وصلوا إلى الأرض أدركوا الواقع، أدركوا أن 17 فبراير لم تكن باحثة عن الديمقراطية و حسب، بل كانت ضرورة حتمية لاسترجاع كرامة المواطن الليبي و استعادة قوت يومه الذي تواصل سلبه منه لعقود.

فشكراً لأولئك الذين بادروا بالحضور وأدركوا منذ البداية الهشاشة التي يعانيها المجتمع الليبي في المجال الإنساني.

شكراً لأولئك الذين تقصوا مواطن الضعف، فطالوا الفئات الأكثر عوزاً فساعدوها.

نتقدم بالشكر لكل هؤلاء، آملين من رجالات الدولة الليبية الحديثة ألا ينسوا الدور الذي قامت به الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخيرية في بلادنا ، و أن يتذكروا هذا الدور كلما تناهى إلى أسماعهم نداء لأي كارثة إنسانية في أي مكان من العالم، فيبادروا بدعم المتضررين فيها، كنوع من رد الجميل و كدعم للقوة الإنسانية التي دعمت الشعب الليبي خلال أزمته.

عندما كان الذئب راعياً

    عندما كان الذئب راعياً
منذ زمن ليس بالقريب، و حالما تجاوز تفكيري الأشياء الصغيره، أخذت الأسئلة تتسلل من رأسي لتظهر ككلمات على لساني. لكن كان هناك دائماً من يخنق الأسئلة لتعود مدحورة، لتتخذ لها متكئاً مع كثير الأشياء المخنوقة التي لا أبوح بها. كان أكثر الأسئلة إلحاحاً، تتمحور حول موضوع واحد أو كائن واحد وهو كلب أبي.
لمن رآه من بعيد، ولم يعرفه عن قرب كان ليعتبره ككل الكلاب، إذ له ذات الصورة، و لا يختلف نباحه عن صوت باقي الكلاب. لكن الأمر كان مختلفاً بالنسبة لنا نحن الذين عاصرناه و عايشناه يوماً بيوم.
بالنسبة للآخرين كان مجرد كائن، أما نحن فلم يكن الأمر بتلك البساطة. لقد جعلته الأقدار لنا موضوعاً يشغل حياتنا بكاملها و يكاد يمتد لأدق تفاصيلها، حتى صرنا و كأننا مجرد هوامش لهذا الموضوع.علاقتنا بهذا الكلب، كانت علاقة غريبة لم أرى لها مثيلاً، و لم أجد لها تفسيراً رغم محاولاتي المتكررة، و أسئلتي الأكثر تكراراً، كانت إجابات امي المتهربة، و تحليلات جدي الهلامية تعيد أسئلتي مقهورة دون الظفر بجواب شافٍ.
كان علينا أن نطعمه و ننظفه، والويل لمن أزعج الكلب في قيلولته، إذ يلقى النباح والهياج من الكلب، والويلات المتلاحقة من أبي، هذا لمن أعطته الحياة قسط من حظ، أما من كان في يوم نحسه فقد لا يكتفي الكلب بتمزيق ثيابه و تمريغه في التراب، إذ قد يطاله بعضة أو عضتين في يد أو ساق.
في ليالي الشتاء الباردة، كنا نرغم على استقباله لينام بيننا، و كما لم يكن لنا خيار في قبوله، لم يكن لنا مناص من قبول من يُحضر معه من كلاب الجيران، يتجولون في بيتنا جيئة وذهاباً، يأكلون ما يحلوا لهم ويلعبون بما طالت أيديهم ـ أقصد أرجلهم – و قد يدمرون بعض أشيائنا، و في النهاية يخرجون دون أن يأسفوا عما فعلوا، و نحن نقف مشدهوين مذهولين دون أن ننبس ببنت شفه، خشية غضب أبي .
ألم أقل لكم إنها علاقة غريبة علاقتنا بهذا الكائن، علاقة لم أجد لها تفسيراً واحتار عقلي في تدبرها. ربما كان أبي من أراد للعلاقة أن تكون على هذا المنوال، و ربما لم تكن إرادة بل هو رضاً بما وجد، وربما لم يكن رضاً لكنه قبول العاجز عن الرفض، و ربما كان الغصب وراء القبول بهذه العلاقة. و لأن أبي لا يرتضي الاعتراف بالهزيمة حتى أمام القدر، كان عليه أن يجد المبررات، كان أبي يقدم العلل دائماً للآخرين لتبرير هذه العلاقة الغريبة، فمن لم تقنعة الحُجة أقنعته حَجَة أبي – التي يتحدث عنها الجميع رغم قدمها- فمن لم تقنعه هذه و لا تلك كانت عضة من الكلب أو عضتين خير مقنع له.
كررت سؤالي دائماً، و قدمت عرائض احتجاجي عند أبي دون جدوى. احتجت أمي ذات يوم فطردها، احتج جدي فتوفي، ووفاة جدي كانت أكثر غرابة، إذ لم تُستخرج له شهادة وفاة، و لم يُقم له العزاء، و لم يُعرف مكان دفنه حتى اليوم.
حتى عندما قام بقتل إحدى شياهنا، غضب منه أبي لكنه لم يقم بطرده أو حتى عقابه.
أخبرته ذات يوم بأني رأيته يلعب مع الذئاب التي تأكل أغنامنا فلم يأبه بذلك، و تنهت دون أن يقول شيئاً.
ذات يوم رآه بنفسه يقتل إحدى الشياه و يجرها على الأرض ليختفي بها خلف التلة، تبعناه فرأينا العجب العجاب، لقد كان يجر الشاة التي قتلها ليرمي بها أمام الذئاب التي كانت تنتظره. طردني أبي و لم يسمح لي بمتابعة ما سيحدث. ظننته سيقتل الكلب. في المساء عاد الكلب إلى البيت،ثم تبعه أبي و كأن شيئاً لم يحدث.
في ليالي الشتاء الباردة، كان يندس بيننا، يزاحمنا فراشنا، و يفتك منا ما نتقي به برد الشتاء، و مع مرور الوقت أخذ يأتي برفاقه من الكلاب و الجراء إلى بيتنا، فنجد أنفسنا مضطرين للاكتفاء بإحدى زوايا البيت لننام فيها. تارة نُقنع أنفسنا بأننا نبتعد عن رائحتهم، و تارة نقنع أنفسنا بأن عقولنا أكبر من التشاجر مع كلب. لكن الحقيقة التي لم نكن نعترف بها، حتى بين المرء و نفسه هي إننا كنا مرغمين على الانزواء في تلك الزاوية من البيت.لكننا دائماً نكابر، وحتى لو سألتموني اليوم عن سبب ذلك، فلا تستغربوا لو أخبرتكم إن ما كنا نفعله كان ابتغاء مرضاة أبي.
استمر الحال على ما هو عليه كل شتاء حتى جاءت تلك الليلة، حين وجدنا أنفسنا خارج بيتنا. في تلك الليلة لم يأت الكلب بمفرده، و لم يكتفي بإحضار الكلاب معه. لقد جاء تلك الليلة و معه الذئاب. خرجنا دون أن نفكر حتى مجرد التفكير في البقاء داخل البيت، و الأدهى من ذلك أننا لم نفكر في مصير بيتنا و نحن نخلفه ورائنا.
فيما بعد، و قبل غروب الشمس بقليل، أرعدت السماء و أبرقت، ثم نزل مطراً مدراراً لم أشهد له مثيل من قبل، و كذلك قالت أمي. كان المطر يشتد كلما علا عواء الذئاب و نباح الكلاب.
الغريب في الأمر و لأول مرة في حياتي لم يزعجني عواء الذئاب ولم يخيفني نباح الكلاب، و لم أشعر بالبرد رغم قساوته. لم ننم تلك الليلة، رميت الغطاء جانباً، و صعدت إحدى التلال، وكذلك فعل من كان معي، رفعنا أكفنا للسماء دون أن نأبه بالمطر و شدته، نتحسس البرد المتساقط .
حدث الكثير من الأشياء الغريبة تلك الليلة، أحسست لوهلة و أنا أمد يدي أنني ألمس السماء، لم يكن ذلك مجرد إحساس، لقد لمست السماء بيدي حقيقة. و لأني أعرف أنكم لن تصدقوا هذا، فلن أواصل سرد المزيد من الأشياء الغريبة التي حدثت تلك الليلة.
... استمر المطر في الهطول، و تكونت سيولاً صغيرة تلاقت فكونت سيلاً هادراً بقوة صوت الشعب الثائر.كان السيل شديداً جرف كل شئ البيت والكلب والذئاب.
كان ينام مدّثراً في فراشنا مستشعراً الدفء و الأمان غير هياب لما حوله غير متوقع أن يكون المطر بهذه الشدة. لكن السيل وصل إليه في غفلة منه. حاول مقاومة السيل الهادر بكل قوة، استخدم جميع نظريات العزوم والطرد المركزي وما استفاده من لعبة عض الإصبع، لكن كل ذلك لم يفده في شيء، إذ حمله التيار ورمى به في قعر الوادي السحيق، وادي جهنم.
أعرف أن البعض منكم يستغرب روايتي هذه، و يمكن للبعض أن يصارحني بأنه لم يصدقها. لكن صدقوني أنه لم يكن لهذه الأسطر أن تُكتب لو كان حياً.

الربيع العربي .. هل حان أوان القطاف

الربيع العربي ... هل حان أوان القطاف ..

يجب ألا ننسى إن الربيع العربي، لم يتأتى نتيجة مطر مدرار متواصل في صورة خير و رفاهية، جاد بها الحكام على مواطنيهم فنام هؤلاء المواطنين غير جائعين و لا متعبين، مدّثرين بفراش من ريش النعام، فلما قاموا في الصباح بحثوا عن ترف جديد لم يجدوه سوى في ثورة تطلب الديمقراطية و الحرية.
المطر الذي أظهر الربيع العربي لم يكن مجرد طفرة مناخية، بل هو محصلة طبيعية لقوانين فيزيائية عايشها المواطن العربي كل الوقت و لعقود لم تكن بالقليلة.
لقد أمطرت سماء العالم العربي بعدما تلبدت بسحب و دخان من آهات و أنين الملايين المتألمة التي لم يُحقّ لها يوماً أن تنبس ببنت شفه. ملايين تُطحن كل يوم برحى قوانين الحاكم و قراراته و نزوات عائلته و أدوات زبانيته.
تواصل تصاعد الدخان و تراكم السحب، دون أن يفكر أحد في أن السماء ستمطر حرية ذات يوم.و طال الانتظار و السماء لا تمطر، و فرمانات الحكام تمنع صلوات الاستسقاء، منعوا حتى تحري هلال رمضان و حاولوا إقناعنا بأن مراكز الأرصاد أكثر دقة، فعلوا ذلك خشية أن ننظر للسماء فنرى السحب فنحلم بالمطر. حتى من خاتلهم و اختلس النظر إلى السماء فترأى له السحاب، لم يستطيع البوح بما رأى ، و من فكر في الحديث عما رأى عمدوا إليه فذهبوا به إلى حيث لا سماء.
كان لا بد لروح البوعزيزي أن تصعّد في السماء و كأنها تنثر نيترات الفضة وسط السحاب لتنزل مطراً مدراراً . حاول الحكام أن يمنعوا هذا المطر بكل ما طالت أيديهم من أدوات. فلما عجزوا عادوا لعادتهم القديمة محاولين إيهامنا بأن ما ينزل من السماء ليس مطراً بل هو مؤامرة امبريالية تهدف لإغراق أرضنا و نشر الفوضى بيننا. أشاروا إلينا بأصابعهم محذرين بأننا مجتمع قبلي تمتد جذوره إلى بني مرة و إننا قد نفنى في سبيل داحس أو الغبراء . لكنهم فشلوا فالمطر المدرار قد سبق فتنتهم و طهرنا من الداخل، فلما أدركوا فشلهم عمدوا إلى مواطنيهم يقدمونهم قرباناً لآلهتهم لعلها تستجيب و توقف المطر، أو لعل أنهار الدم تشوه المطر و تثير الرعب فينا، و تجعلنا نخاف على أطفالنا فنكره المطر و نكفر بالثورة و نعود إلى سباتنا الأبدي الذي عشناه لعقود و عقود... لنحيا بلا أمل و ننام بلا حلم.
كانت آلته كبيرة، مستعدة لقتل جميع الشرفاء و صفد دمهم، لعل أنهار الدم المسكوب تبتلع ماء المطر فيضيع الحلم. لكن الأرض كانت وفية لدماء أبنائها، كانت تحتضنهم بكل الود، تنسج بأرواحهم راية طالما حلموا بها و لطالما كان يخشاها حكامهم، فلما طال الدم كل جزء من أجزائها، أدركت أرضنا أن نُسجها قد اكتمل وأن الربيع قد حل و إنه قد آن الأوان. انتفضت الشمس من غفوتها و أطلت على أرضنا لترى الربيع و قد أطل بعد طول غياب.
في الصباح كان هناك طفل يحاول قطف زهرة من أزهار الربيع... نهرته أمه قائلة بأن أوان قطف الزهور لم يحن بعد... نظر إليها الطفل ببرأة و سألها : متى يحين موعد قطف الأزهار يا أمي؟؟؟

2011/12/18

و من يُجهل أربعين حولاً ..... لا أبالك يخطئ


لو أن الأمور انتظمت في ليبيا خلال شهر أو شهرين أو بضعة أشهر بعد التحرير لكان واجباً علينا أن نتقدم بالشكر للنظام السابق، لأنه نظام خلق شعباً يستطيع تجاوز أشد الأزمات في زمن قصير . لكن هذا لم يحدث و لم يكن ليحدث في بلد تعرض شعبها لعقود متتابعة من التجهيل الممنهج .

لا تتلاوموا... يلوم أحدكم الآخر ... فما نراه اليوم في ليبيا هو محصلة متوقعة لأربعة عقود من التجهيل و التهميش و تدمير الإنسان من الداخل. فمن لم يتوارى تحت التراب كان كومة لحم خلف القضبان. فمن لم تسعفه شجاعته ليكون من هؤلاء كان أسيراً داخل نفسه يتابع كل يوم الجري خلف لقمة عيش لا تقيه و أطفاله الأنيميا و أمراض سوء التغذية الأخرى. تعود خنق أفكاره داخل عقله. ينام و هو يخشى أن تتسلل إحدى أفكاره فتشي به عند رجالات الأمن الداخلي أو الخارجي. شعب تعود و عبر أربعين عاماً إن الحقوق لا تُحصل إلا بالواسطة، تعود أن لا يصل لعمله إلا بالمرور وسط بركة المجاري، تعود الإحساس بأن ما يحصل عليه هو حسنة من النظام، تعود نسيان حقوقه ، تعود و عبر سنوات إن احترامه للآخر انتقاص من حقه، لم يعد من السهل عليه أن يفرق بين الحرية والفوضى و بين الحق والواجب.

الشعب الليبي عاش تجربة مريرة عبر حقبة زمنية ليست بالقصيرة – مقارنة بمتوسط عمر الإنسان في ليبيا-  لا يمكن إلا أن تترك أثراً نفسياً و هذا الأثر ليس له إلا أن ينعكس في تصرفاتنا و معاملاتنا مع الآخرين و مع البيئة المحيطة بنا بشكل عام.

يجب أن نتناصح بعضنا بعضاً، و لكن علينا ألا نشتد في لوم الآخر لخطأ ارتكبه، و تذكر دائماً أن خطأ أخيك قد لا يكون عن سبق إصرار بل هو محصلة لأربعين عاماُ من ترصد حكومة لشعبها، و من يُجهل أربعين حولاً ..... لا أبالك يخطئ.