2013/01/01



البحث عن الذاكرة

حمد الرقعي

ها أنت ذا قد طويت مراحل الدراسة الثلاث، الابتدائية فالإعدادية ثم الثانوية، و ربما ألحقتها بمرحلة دراسية أخرى في الحامعة، سنوات و سنوات قضيتها متنقلاً من مدرسة إلى أخرى، عرفت عشرات المدرسين ممن علموك، و عرفت عشرات آخرين ممن لم يدرسوك، عرفت المئات من زملاء الدراسة باسمائهم و عنوان سكنهم، و أصبح العشرات منهم أصدقاء لك فعرفت الكثير من تفاصيل حياتهم. و خلال هذه السنوات طالعت عديد الكتب و سمعت الدرس تلو الآخر و كل منها يحوي معلومات و بيانات لا حد لها. كل ذلك... من أسماء اصدقائك و زملائك و معلميك و ما احتوته الكتب من علوم، و ما فعلته خلال العطلات الصيفية و رحلاتك مع الزملاء و لعبك مع الأصدقاء. كل ذلك يدون كذكريات تصبح جزء من حياتك و سترافقك طيلة العمر، و ربما كان لها دور في قيادة حياتك من خلال ما تتخذه من قرارات.
و ها أنت قد بدأت حياتك العملية أو تستعد لبدئها، و ستلتقي آخرين، زملاء و مدراء و ستواجهك مواقف و مواقف و مواقف سيسجل جلها وربما كلها في الذاكرة. فما مررت به في سابق الأيام و ما تمر به الآن و أنت تقرأ هذه السطور، و ما ستمر به لاحقاً. كل هذا يسجل في الذاكرة في صورة ذكريات لا تمحي تجعل الماضي  حاضراً أبداً. حتى اللحظة التي نعيشها الأن ستغادرنا لنرمي بها في عربة الذكريات، و المستقبل الذي ننتظره دائماً بفارغ الصبر سيصل ذات يوم لنعيشه لحظة بلحظة، و كل لحظة نعيشها ستغادرنا بلا استئذان لتعشش داخل الذاكرة. كل لحظات حياتنا بمرها و حلوها ستعشش داخل الذاكرة و لن تغادرها، و إن حاولنا طردها فلن نجد لذلك سبيلاً.. هذه هي حياتنا ماضٍ و حاضر و مستقبل. الحاضر ها نحن نعيشه و الغد هو المستقبل الذي ننتظره و نتطلع إليه. و لكن ماذا عن الماضي، لقد ولى، لكنه خلف وراءه ذكريات هي الدليل الوحيد على أننا عشنا تلك اللحظات التي صارت من الماضي.
الذاكرة وظيفة حيوية لأنها تخلق التواصل بربطنا بماضينا و تحفظ هذا الماضي وتسترده في حدود فترة زمنية معينة ، لذلك عرفها لالاند بأنها "وظيفة نفسية تسترجع حالة وعيناها في الماضي مع علمنا انها تخص الماضي فقط."
منذ القدم حاول الإنسان التعرف على طبيعة الذاكرة، و كيفية حفظ ذكرياته و استرجاعها. و لطالما تسآل عن الذاكرة، عما إذا كانت شيء مادي، أم هي شيء غير محسوس لا يمكن لليد أن تطاله.
عندما نرجع للوراء، لماضي البحث عن الذاكرة، نجد عديد النظريات حول مكان الذاكرة و طبيعتها و طرق عملها. أقدمها نظرية الفليسوف أرسطو طاليس التي عرفت بنظرية الأثيرTrace Theory  و التي اعتقد فيها أن المخ هو مخزن الذكريات, وأن كل حدث مما نمر به في حياتنا لابد و أن يترك أثراً في المخ في صورة أخاديد، و كأنك تمر بأداة حادة كالسكين أو رأس القلم على سطح الشمعة ـ  كما شرح أرسطو في تمثيله الذي حاول به تبسيط نظريته ـ إذ يترك هذا المرور أخاديد على السطح. و حدد الفيلسوف العربي ابن سينا تجاويف الدماغ بثلاث:المقدم والأوسط والمؤخر وجعل مخزن الذكريات في التجويف المؤخر منه. و في العصور الحديثة اقترنت النظرية المادية باسم ريبو الذي رأى ان الذكريات تحفظ في الدماغ على شكل آثار مادية يمكن للانطباعات الحاضرة ان تعيدها الى مجال الوعي، و كأن ذكرياتنا تخزن في المخ بذات الطريقة التي تخزن بها الموسيقى على الأسطوانة الممغنطة. و تستعاد هذه الذكريات كما تنبه إبرة الفونوغراف الموسيقى المسجلة على الاسطوانة.
هذا التشبيه و ككل التشبيهات يبدو سهلأ و مريحاً. لكن واقع الأمر غير ذلك، فكيف تحدث الأخاديد في المخ و كيف تختزن ذكرياتنا في أخاديده؟ من الصعب إيجاد جواب لهذه الأسئلة. و بالرغم من ذلك استطاعت نظرية الرسم على الأخاديد الصمود لمئات السنين كأحد التفسيرات المتاحة لعملية اختزان الذكريات. بفضل وجود أدله يعتقد مؤيدي هذه النظرية بوجاهتها، فإصابات المخ تؤدي لفقدان جزئي أو كلي للذاكرة. مما يعني أن المخ هو مخزن الذكريات. و عند تعريض مرضى الصرع لتيار كهربائي كأسلوب علاجيلوحظ استطاعة المريض استرجاع أحداث وذكريات معينة من ماضي حياته بوضوح تام. تختلف هذه الأحداث والذكريات باختلاف المنطقة من المخ التي يتم تنبيهها.
في القرن السابع عشر قدم رينيه ديكارت النظرية المائية أو نظرية السوائل المتحركة  hydraulic theory لتفسير الذاكرة. و تقول بأن تجارب الإنسان تؤدي إلى زيادة حركة السوائل من خلية إلى أخرى عبر جدران هذه الخلايا في اتجاه واحد عبر ثقوب دقيقة في جدران الخلايا
و لقيت هذه النظرية قبولاً واسعاً في حينها باعتبار الماء المكون الأكبر بجسم الإنسان و باعتبار أن السوائل في حركة مستمرة داخل الجسم الحي.
لم تصمد نظرية ديكارت طويلاً، لأنها كانت تعمد أساس التغير الكيميائي الذي يعري السائل عند تسجيل الذكريات عليه، إلا أن هذا مخالف لواقع الحال فالسوائل و رغم ميوعتها إلا أنها توجد في تركيب كيميائي ثابت. فالماء لا يتغير تركيبه الكيميائي, حتى بعد مروره بين خلايا المخ.
بالرغم من أن نظرية ديكارت لم تدم، إلا أنها فتحت الطريق لنظرية أخرى هي نظرية تحور التشابكات العصبية synaptic modification   و تقول بأن التجارب التي نمر بها تؤدي إلى حدوث تغيرات في التشابكات العصبية و  بقاء هذا التغيرات هو طريقة حفظ الذكريات مما يمكننا من استرجاعها ومما جعل هذه النظرية تلقى القبول أن مخ الإنسان يحوي ملايبن الخلايا العصبية, الأمر الذي يعني وجود عدد هائل من التشابكات العصبية التي تستطيع استيعاب سجل لكل الأحداث في حياة الإنسان, خصوصاً أن هذه التشابكات تربط أكثر من خليتين في ذات الوقت.
في مرحلة لاحقة، و مع اكتشاف ال"دي.إن.أي" DNA الذي يحمل الشفرة الوراثية في جميع خلايا الجسم, ظهرت نظرية الحمض النووي Nucleic acid theory التي تقوم على أن الحمض النووي في خلايا المخ هو المسئول عن تسجيل الذكريات, التي تخزن بإحداث تغيرات دائمة في الحمض النووي في خلايا المخ. إلا أن هذه النظرية تقطعت بها السبل عندما لم يثبت وجود أي حمض النووي داخل المخ ذو طبيعة كيميائية مختلفة عن الأحماض النووية الموجودة داخل باقي خلايا الجسم.
فيما بعد ظهرت نظرية المجال التكويني Theory of Morphogenic Field  التي قال بها الأمريكي روبرت شيلدريك و التي ذهبت إلى أن نمو الكائنات الحية لا يخضع لمؤثرات من داخلها, و إنما لمؤثرات خارجية على هيئة مجالات ذات درجات قوة مختلفة تؤثر في الإنسان، ليلتقط المخ الإشارات من المجال الخارجي بذات الطريقة التي يلتقط بها الراديو برامج الإذاعة. و كما يعمل المخ كمستقبل وفقاً لهذه النظرية فهو يعمل كذلك كمرسل، فلا يحتفظ بالذكريات بل يقوم بإرسالها إلى المجال التكويني الخاص بنا.
و في العصر الحديث دحض هنري برغسون نظرية معاصره ريبو لينفي حقظ الذكريات -  التي هي عبارة عن أفكار - داخل وعاء مادي هو الدماغ. و قال من خلال نظريته الروحانية بأن الدماغ ليس خزاناً أو وعاء تحفظ فيه الذكريات. بل هو مجرد مصفاة تمر عبرها هذه الذكريات ، و هذا الدماغ هو الذي يقوم باختيار الذكرى المناسبة للموقف المناسب. و أي إصابة للدماغ تمنعه من القيام بوظيفته كمصفاة أو كأداة اختيار. لذلك فليس هناك اي فقدان كلي للذكريات، و إنما هناك صعوبة تذكر. فالذكريات على رأي برغسون لا تحفظ في الدماغ لأن التجربة تؤكد أن فساد منطقة دماغية لا يلغي الذكريات الخاصة بها ،بل يعيق القدرة على استعادتها في ظروف معينة ،فمن فقد القدرة على التعبير بالكلام ونسي مثلا كلمة "لا" قد يتذكرفي حال الغضب هذه الكلمة، فالكلمة استعيدت بطريقة غير إرادية في وضع نفسي انفعالي، مما يؤكد ان الكلمة كانت موجودة ولكن ليس في الدماغ، و لم تكن الصعوبة سوى في استعادتها بسبب الخلل الدماغي.
فالذاكرة تبعاً لما يراه برغسون لا علاقة لها بالمادة وبالآليات العصبية، بل هي ذات طبيعة روحية لا تحفظ قط في الدماغ. و الوعي لا يتقبل سوى الذكريات المتلائمة مع حاجاتنا الحاضرة فالدماغ هو آلة استدعاء يستعملها الوعي لاستعادة الذكريات وليس مستودع حفظ لها.بل هي تحفظ في اللاوعي، ويوضح برغسون الأمر بمثل الاحلام، فخلالها تهجم الذكريات دون تمييز لانعدام الحاجات العملية عند النائم .
لا شك أن الذاكرة و محلها من الجسد، لن يغادرا محل الدرس و البحث لوقت لن يكون بأي حال بالقصير. و المسلمات في عقولنا أو قلوبنا و ربما في جيناتنا، لن تسلم بسهولة هيلمانها الذي تسيطر به على تفكيرنا. فمسلمات رافقتنا كل سنوات العمر، و عششت ذاكرتنا كل الوقت، لن نستطيع التخلي عنها بسهولة، خاصة إذا كانت هذه المسلمات تخص الذاكرة ذاتها. من الواضح أن العلم لن يتخلى عن أدواته خلال السنوات القادمة، و سنشهد توسعاً لعلوم الجينوم و الوراثة فوق الجينية و البروتيوم، و ربما تطبيقات عملية للاستنساخ و غيرها. لذلك علينا أن نكون مهيئين للاستغناء عن مسلمات من القدم و تصديق عقولنا بها ما جعلها و كأنها جزء من كياننا، و الاستعداد لتقبل نظريات ستطالها يد الإثبات، قد تمس الحبل الدقيق لما يعتقده البعض من مبادئ اخلاقية. علينا أن نكون مستعدين لتلك اللحظة بقدر من الفكر يحافظ لنا على عقيدتنا و مبادئنا الاخلاقية.
"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بماء شاء"





 سورة البقرة الآية 255