2012/02/10

رسالة وطن


رسالة وطن
د .حمد الرقعي                 

لم يكن بالقصير، ذلك الزمن الذي عشته في غيبوبة كاملة، فقدت فيه القدرة على قول شيء أو حتى الإتيان بشيء. أربعين حولاً و حول و حول، كل حول بأربعة فصول، خريف و خريف و خريف و خريف، و أنا ممدد على فراش الوحدة و العزلة. لا يُثبت وجودي في هذا العالم سوى الحيز المكاني الذي أشغله ضمن خارطة البيت. أربعين عاماً من العزلة عن إخوتي و جيراني و رفاق الصبى و ربيع العمر. أربعين حولاً مضت علي معزولاً مهمشاً  لا أكاد أخطر في بال أحد، و لا يذكرني الآخرين سوى بما يأتيه المنحرف من أبنائي من سؤ الفعل اتجاه أشقاءه و جيرانه  و حتى اتجاه الآخرين الذين يبعدون عنا مسافات طويلة وراء البحر أو خلف الصحراء. و لشد ما كان يؤلمني ما يأتيه العاقين من ابنائي اتجاه اخوتهم من البشر. لكن لم يكن باليد من حيلة.
عيرني الجميع بهم، و ليس أشد على الرجل من أن يعير بفعل أبنائه. و لو يسر لي القدر شيئا من قدرة في ذلك الوقت لكنت تبرأت منهم و لطردتهم شر طردة, لكن يد الله كانت تُسير المقادير وفق إرادته، فلم تُيسر لي ذلك، لحكمة لا يعلمها سواه حتى الآن.  
بالرغم مما اعتراني في مرضي من يأس و غنوط  طيلة عقود، إلا أني لم أُنكر أي من أبنائي ... لم أقل في يوم من الأيام لأي منكم من أنتم. فأنا أعرفكم جيداً . لم أتوجه باللوم حتى لمن اختاروا تركي و الهجرة عني بسبب جور الزمان عليهم، و ظلم أبنائي بعضهم بعضاً. هجروني لكن خيط الوصل بيني و بينهم لم ينقطع قط. هاجروا عني بأجسادهم لكني لم أهجر أبداً أفكارهم... ظللت دائماً حلماً في العقول و أملاً في القلوب....ظللت دائم الحلم بأن استعيد عافيتي فأوقف جور إخوتهم وأعيدهم إلى حضني. و هم أبداً لم ينقطعوا عن البحث عن دواء يعيد لي عافيتي ليعودوا إلى حضني.
لم أسألكم يوماً من أنتم لأني أعرفكم جيداً فأنتم أحفاد فلان و فلان و فلان من أبنائي الذين خرجوا من صلبي، الذين صبروا و صابروا. الذين نقشوا رسوماتهم على جبال أكاكوس، الذين جابوا الصخر و الواد، الذين قطعوا الفيافي في سبيل حفنة تمر يُسكتون بها ثعبان جوع قاهر يهدد أطفالهم... الذين حموا ديارنا من غزو الطامعين على مر السنين، الذين حفروا الجبال في شرق البلاد و غربها ليقوا أطفالهم برد شتاء و حر صيف لا يرحمان.ابنائي الذين لم يردعهم الجوع و العطش و مخاطر الترحال عن تلقي العلم في مشارق الأرض و مغاربها،  فلما تلقوه لم يبخلوا به فراحوا ينشرونه في كل نجع و كل مِصر. و ها هي قبورهم على كل تل و فوق كل رابية تظل شاهداً على ما فعلوا في سبيل إخوانهم.
أعرفكم جيداً أبنائي، فحتى أيام مرضي و عندما سيطر الأشرار منكم على خيراتي و حرموكم أنتم الطيبين منها، رغم ذلك ورغم جور الزمان و جور بعضكم على بعض، لم يتنصل و لم
ينكرني أحد منكم. برغم ما الصق بي من تهم و افتراءات بعجزي و عجز أبنائي و شرور بعضهم.     
عيرني الأقارب  ببعض أبنائي الذين باعوا الغالي بالرخيص و ارتضوا حياة الدعة في ذل، على حياة الشرف في ظل شغف من العيش . إلا أنني لم أغنط و لم يعتريني اليأس يوماً.
عيرني الأغراب بتخلف أبنائي و اعتمادهم على ما وجدوه من مال وذهب أسود، دون أن يفكروا في تنمية ثروات حقيقية أملكها هي أرض و بحر و صحارى و سماء تجود بالخير طيلة فصول العام لو جاد عليها أبنائي بيد تحمل معول و عقل يتدبر ثروة أبيه الحقيقة. لقد لامني و لامكم و لسنوات جميع الناس، الأقارب و الأغراب و حتى نساء بعضكم توجهن باللوم إلى أزواجهن. أما أنا فلا ألومكم أبنائي فالحل و العقد كان بيد البعض منكم الذي لم يكن ليتدبر سوى في تهميشكم و إحاكة المؤامرات لمن فكر في مساعدتي للتشافي من مرضي لتستمر غيبوبتي أطول و أطول و أعمق و ليتعمق نسياني حتى أتلاشى داخل عقولكم.
أبنائي لم أعتب على من باعني منكم عندما كنت في تلك الغيبوبة الطويلة و الذين تصفونهم اليوم بالمتسلقين . لكني اليوم أعتب عليكم أنتم أبنائي الحقيقيين يا من ترفعتم على أن ترثوني قبل أن أموت، و ضحيتم بكل غالٍ و رخيص لتعيدوا إلي عافيتي. وها أنا اليوم و قد تعافيت، أراكم تباعدتم عني لتلهثوا وراء مصالحكم الشخصية و تتركوا والدكم. ليشاحن أحدكم الآخر، و ليلاعن بعضكم بعضاً فما عدت أرى منكم سوى سيئاتكم، حتى كاد البعض منكم ينسى إخوتكم الذين قضوا، و هم يكافحون في سبيل الحصول على دواء يشفيني.  
عودوا إلي أبنائي.... و ترفعوا ... ترفعوا.... ترفعوا....
-----------------
 ملاحظة: الوطن يبعث برسائله للجميع ، لكل مواطن رسالة، و هذه هي الرسالة التي خصني بها الوطن. ترقبوا رسائلكم... لكن لا تنتظروا  ساعي البريد، فالوطن لا يكتب رسائله بالمداد. فقط أنصتوا جيداً... ستسمعون رسالة الوطن تنبع من داخلكم من أعماق النفس الطيبة. إذا وصلتكم رسالة من وطنكم... فلا تبخلوا علينا بمشاركتكم قراءتها.
للتواصل : Hamsam3@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: