2012/09/22

ذاكرة الشم


هل حدث معك يوماً أن كنت ماراً فشممت رائحة أخرجت من تلافيف ذاكرتك صورة لمناسبة أو شخص ما. كثيرة هي الروائح التي نشمها بأنوفنا فتعيد لنا ذكريات مضت. رائحة الخشب المحترق تعيدنا لنزهة في يوم ما مع العائلة أو الأصدقاء، رائحة الكحول و المواد المطهرة قد تعيد إليك ذكريات إقامتك بالمستشفى، ورائحة البخور التي تعبق بها الأسواق الشعبية، ستعيدك بالذكريات إلى يوم زفافك، و ربما ذكرتك بالساحر الذي زرته ذات يوم.
جميع الروائح التي تمر بنا في حياتنا، يستقبلها المخ ليحفظها ضمن أرشيف كبير، يضم عشرات الآلاف من الروائح. و عندما تلتقط المستقبلات الشمية الروائح المختلفة التي تطلقها الأشياء من حولنا، تقوم بإرسالها إلى البصيلة الشمية، ومنها تصل إلى المنطقة المختصة بالشم في الدماغ، حبث يتم تقليب صفحات الأرشيف داخل الدماغ بحثاً عن رائحة تحمل ذات التشفير، و عندها يبلغنا الدماغ أن الرائحة التي تم استقبالها مطابقة تماماً للرائحة الموجودة بالأرشيف الخاصة بالتفاح، و بالتالي فإن الرائحة التي تم نشمها هي رائحة التفاح, أما إذا لم يجد الدماغ ما يطابق الرائحة التي نشمها ضمن أرشيفه، فيحاول البحث عن الرائحة الأكثر مشابهة لها، فنقول هذه رائحة تشبه رائحة التفاح، أو رائحة تشبه رائحة الياسمين. فإذا كنت تحاول اختيار عطر ما داخل محل العطور، فبمجرد شمك لعطر ما سيخبرك الدماغ بنوع العطر وفقاً لما تم أرشفته سابقاً، لكن إذا شممت عطراً جديداً، فالدماغ لن يجد رائحته داخل الأرشيف، و بالتالي سيبلغك بأن هذا العطر مشابه لرائحة الياسمين أو التفاح أو غيرها من الأشياء، و ربما توجد ذكريات مخزنة حول هذه الرائحة، فيخبرك بأن هذه الرائحة هي التي شممتها في تلك المناسبة، أو عند ذلك الصديق. و عندما يبلغك البائع باسم العطر، فإن الدماغ يؤرشف الرائحة الجديدة بهذا الاسم، و يبلغك بإسمها إذا شممتها من جديد. فذاكرة الشم هي التي تقودنا إلى معرفة هوية الروائح التي نشمها في حياتنا اليومية، و كل رائحة يتم تخزينها في ذاكرة حاسة الشم حسب رموز معينة. وعند إحساسنا برائحة ما يتم التعرف عليها حسب ما يقابلها من رموز موجودة في أرشيف ذاكرتنا الشمية، ولو شممنا رائحة ما غريبة علينا، أي لم نصادفها من قبل فإن مخ الإنسان يحاول تحليلها حسب أقرب رائحة إليها مخزونة في الذاكرة الشمية، و من المستحيل التعرف على الروائح لولا وجود هذه الذاكرة.

 إن الأرشفة الدقيقة لعشرات الآلاف من الروائح، و السرعة الرهيبة في استدعائها عند الحاجة إليها، تعتبر معجزة تجعل حاسة الشم تتفوق على غيرها من الحواس في دقتها.
و شم رائحة ما، يستدعي لنا الذكريات المرتبطة بالرائحة سواء كانت هذه الذكريات ممتعة أم محزنة، فشمك لرائحة كنت قد استخدمتها في مناسبة معينة، ستعيد إليك ذكريات تلك المناسبة بتفاصيل دقيقة كنت تعتقد أنك قد نسيتها. و يطلق على هذه الظاهرة "ظاهرة بروستيان" نسبة إلى الكاتب الفرنسي مارسيل بروست، الذي نشر إحدى الروايات حول تذكر الماضي، والتي ورد فيها تذكره لماضيه نتيجة شمه رائحة البسكويت الذي تعده "مادلين" بطلة الرواية.
و وجد أن الذكريات التي تُستدعى بشم الروائح أشد عاطفية و أكثر تفصيلاً من الذكريات المصاحبة للحواس الأخرى كالنظر أو السمع. و يمكن إرجاع ذلك إلى أن جزيئات الرائحة التي نشمها تنتقل مباشرة إلى منطقة الأميغدالا في الدماغ المسئولة عن السيطرة على العواطف، أما الحواس الأخرى فلا تؤثر في هذه المنطقة بشكل مباشر، لذا فهي تحفز عاطفة أقل. فالمسار الرئيسي المؤدي للدماغ بالنسبة لحاستي البصر والسمع يبدأ بأعضاء الإحساس و يمر قبل وصوله للمخ بمنطقة المهاد التي تعمل كمحطة توصيل للمعلومات إلى قشرة الدماغ، أما إحساسات الشم فتدخل إلى القسم الأمامي من المخ مباشرة دون المرور على المهاد.
في إحدى التجارب عرضت 60 صورة مختلفة على المتطوعين، ومع كل صورة كانت تصدر رائحة إما لطيفة أو كريهة. وبعد الانتهاء، تم إخضاع كل متطوع لفحص دماغي بالرنين المغناطيسي، بينما يعاد عرض الصور مرة أخرى وعلى المتطوعين محاولة تذكر الرائحة المصاحبة لكل صورة. أعيدت التجربة للمتطوعين مرة أخرى  بنفس الصور ولكن باختلاف الروائح. بعد أسبوع من التجربة، عاد المتطوعون ليتم فحصهم. عرضت عليهم الصور مرة أخرى وطلب منهم تذكر الروائح. وجد العلماء أن الانطباع الأول للرائحة يكشف نشاط مميز وفريد في الدماغ. ولمعرفة تأثير الحواس الأخرى ، أعيدت التجربة باستخدام الأصوت بدلاً من الروائح، فوجد أن الأصوات لم تترك ذات الأثر الذي تركته الروائح. و يعود ذلك إلى أن وصف الأشياء بالكلمات يقلل من العاطفة التي نشعر بها تجاه الموصوف. فالروائح لها قدرة كبيرة على إعادة الذكريات بصورة أوضح، لأنه من الصعب وصف الروائح بالكلمات، إذ  لا يوجد أسماء نصف بها الرائحة. فنحن نسمي الأشياء من حولنا بأسماء متفق عليها في كل لغة، أما الأسماء التي نطلقها على الروائح  فهي في الحقيقة أسماء لمصدرها فنقول رائحة القرنفل و رائحة الياسمين و رائحة الموز... و هكذا.
و هنا أتذكر قول الشاعر نزار قباني:
           كـلمـاتـنا فـي الحـب تـقـتل حبنا                                          إن الحـروف تمـوت حـين تقال
يقوم الدماغ باستقبال ما يصله من بيانات شمية و من ثم تحليلها و مراجعة مخزونه من الذكريات المتعلقة بهذه الرائحة فيتم استدعائها، و قد وجد أن للروائح قدرة على تنشيط الذاكرة والمساعدة في تذكر أشياء قد مضى عليها زمن ليس بالقصير و تكون هذه الذكربات المستدعاة بواسطة أحاسيس شمية أقوى وأكثر عاطفية وتفصيلاً من تلك المصاحبة للحواس الأخرى‏ كالنظر و السمع و ذكريات الروائح هي الأطول مكوثاً في ذهن الشخص مقارنة بالانطباعات التي تتركها صورة ما أو لحن موسيقي تم سماعه، فمع مرور الوقت تبقى الذاكرة الشمية حاضرة في حين تتلاشى الذاكرة البصرية أو السمعية. ففي إحدى التجارب تم إطلاق رائحة في غرفة يذاكر فيها بعض الطلاب وخلال الامتحان تم إطلاق نفس الرائحة فكانت نسبة الإجابات الصحيحة مرتفعة بشكل ملحوظ.
فالروائح تنشط مناطق كثيرة في الدماغ فتجعل الإنسان يتذكر أشياء ارتبطت برائحة المادة التي يشمها، ليستطيع الإنسان تذكر أشياء مضى عليها عشرات السنين ويربطها بهذه الرائحة.
و تذهب العديد من الدراسات إلى أن الروائح تستطيع  إحداث تغييرات فيسيولوجية في جسم الإنسان، بل أنها تؤثر في القسم الأمامي من الدماغ المسئول عن السلوك واتخاذ القرارات.
فمن الواضح أن حاسة الشم ترتبط بالعواطف بشكل مباشر, إذ أن اشتمام بعض الروائح قد يغير من مزاجنا, و يؤثر في مشاعرنا, فمجرد اشتمام رائحة القهوة عند البعض, يجعلهم يتخلصون من المزاج الكسول, و يشعرون بالنشاط أكثر.
و نتيجة لهذا الارتباط الفريد بين حاسة الشم و الدماغ الذي يعالج العواطف، يصبح بالإمكان إيقاظ الأحاسيس والمشاعر المكبوتة، والذكريات المخزنة التي قد تكون من النوع المؤلم، من خلال مؤثرات حسية معينة، كرائحة عطر، أو صوت شلال، أو منظر طبيعي معين. و لا يخفى الدور الذي يلعبه استدعاء الذكريات في العلاج النفسي.
والدراسات الحديثة في هذا المجال تؤكد بأن العكس أيضاً صحيح، فتذكرنا لمناسبة معينة، سيعيد إلينا كذلك الروائح التي كان يعبق بها مكان المناسبة، و تذكرك لشخص ما، سيعيد إليك رائحة العطر الذي يستعمله.ففي إحدى التجارب المتعلقة بهذا الشأن طُلب من المتطوعين ربط قصة عاشوها في حياتهم مع الروائح السائدة فيها.  وعندما عرضت الصور المتعلقة بالمناسبة على المتطوعين الموضوعين تحت المراقبة الدماغية الحركية، وجد أن تلك الصور أثرت في المناطق الشمية الدماغية بشكل كبير، حيث لوحظ تبدلاً واضحاً في استجابة القشرة الدماغية.

ليست هناك تعليقات: