2012/11/12

قصة ليست للأطفال (3) الشيخ الجليل



ما كان يختلف كثيراً عن غيره من الصيادين لمن رآه عن بعد. ذات الملابس الرثة التي لا يكاد يفارقها البلل في شتاء أو صيف. ذات السمرة التي تكتسي وجوه جميع الصيادين، من كثر عناقها لشمس تأبى إلا أن تترك بصماتها على وجوه رجال اعتادوا حرقتها الدائمة، فما عادوا يبحثون عما يقيهم حرها. و كباقي رفاقه على ظهر هذه السفينة، و بخلاف صيادي السفن الأخرى، يتشح وجهه مسحة حزن لا تكاد تفارقه، لم تُفلح لحيته البيضاء الكثيفة في إخفاء ملامحها، و ما كانت النظرة لتتوه عنها رغم تجاعيد غائرة تكتسي وجه الشيخ، و كأن كل واحدة من ثناياها تؤرخ لعمق ما عاشه صاحب هذا الوجه، من ألم رُغم صبر, و معاناة رغم جلد، ميزاه طوال حياته.
كان يحضى بالاحترام بين كل الصيادين، كبيرهم و صغيرهم. لم يكن الأكبر سناً بينهم لكنهم كانوا يرون فيه ظِل الحكمة على سطح سفينتهم و فوق يابسة مدينتهم، في ظل زمن تظِلُ فيه الحكمة عن الكل و تتوارى وسط موج من الزحام الذي لا يرحم. كانوا يلجئون إليه جميعاً للفصل فيما بينهم. و لم تكن لتتعطل قوانين حكمته إلا بما يفرضه عليهم القبطان من أوامر، لا تكترث في أغلب الأحيان برؤية حكيم أو فصل قاضٍ.
يوم اهتزت الأرض وربت. يوم قررت الشمس أن تشرق في ذات اليوم مرتين على ذات اليابسة و ذات البحر، يوم فتحت السماء  أبوابها ، لتعبر دعوات كل المظلومين و الفقراء و المعوزين، كان الشيخ أول الداعين، كان الأعلى صوتاً و الأطول يداً. كان يتابع دعواته و هي تعبر باب السماء، و رغم شعور اعتراه بأن يديه تلامس السماء، إلا أن ذلك أبداً لم يشغله عن مواصلة الدعاء، لأنه كان يدرك أن المزيد من الدعاء سيفتح المزيد من الأبواب في السماء، و كما توقع بثقة لم تغب عنه يوماً، كان دعاءه يجلب المزيد من الداعين، و يفتح المزيد من أبواب السماء, و ما كان للدعاء إلا أن يُستجاب بمطر مدرار لم تشهده اليابسة من قبل. رعد مرعب و برق شديد الومض، ومطر ينهمل كالسيل فيخلق سيولاً كالأنهار. تُغرق السفن و تُخرج الذئاب من البيوت.
لم يأبه لنداءات القبطان، طلب منه أن يعود ،هدده بالويل إذا لم يرتدع، اتجه إليه بسيل من النعوت. لكن الشيخ لم يطأطئ، بل لم يأبه به، ليس لغفلة منه و لكن لإيمان عميق في داخله بأن السيل الجارف قادم، و لن يرحم ذئب جائر و لا قبطان ظالم.
انتهى الأمر ... خرج الذئب من البيت محاولاً التواري داخل جُحر لكن السيل جرفه، لفظ البحر القبطان وقُبر في مكان لا يُعرف، و توقف المطر معلناً بدء الحياة.
بعد أخذ ورد، و كثير من الجدل و الحوار شمر كل صياد عن ذراعيه معلناً أن له دوراً في إعادة بناء السفينة. كانت النوايا الحسنة تُظلل الجميع، لكن البعض شغلته أموال القبطان التي وجدوها في خزنة السفينة بعدما رمى بها البحر.
كان الشيخ الجليل يُجاهد لعله يحافظ على لُحمة الصيادين. أراد أن يوحدهم الفرح و الحلم كما كانوا  تحت سوط الظلم و جور القبطان. جمع بعضاً من خشب السفينة و قال لهم إن كومة العصي مجتمعة أقوى و أشد من مفردها. لكن في الأمر جدة، وفي جديد الأمور تكثر الآراء و تتعدد المشارب. ذهب الصيادون كل مذهب، و ربما ذُهب بهم كل مذهب، و صارت حكمة الشيخ الجليل عاجزة عن إيجاد مدار يوحدهم أو مسار يجمعهم. بل إن البعض أخذ كومة العصي التي جمعها الشيخ وأحرقها ليتدفأ بها.البعض ذهب إلى أن الشيخ قد فقد أدواته. سلاح الشيخ كان الدعاء، و قد حقق دوره و اليوم حان وقت العمل.
يتأسى الكثير من الصيادين اليوم، لأن الشيخ ما عاد يُقدم لهم حلولاً كما عهدوه. لكن القليل منهم يعفي الشيخ أيما تقصير، لأن ما يُرى قصوراً إنما هو محصلة واجبة التحقق لمبالغة منهم فيما توقعوا منه، فما الشيخ الجليل إلا واحد منهم، يرغب في مشاركة الكل في بناء سفينتهم دون رغبة منه في إمساك سوط القبطان من جديد. البعض يرى إن بعض الشدة قد تُسرع العمل و إنه قد حان الوقت لعقل الناقة فما عاد التوكل لوحده ليفيد بشيء.
قد يتبع....

ليست هناك تعليقات: