2012/11/12

قصة ليست للأطفال ( 2 )



شمر الرجال عن سواعدهم، يمموا شطر شاطئ البحر بعدما قلبوا الأمر على عدة أوجه، فقدروا ثم قرروا أن الخير و الفلاح في إعادة بناء سفينتهم بعدما عفاهم القدر و دعوات صالحيهم و صبرهم و مجالدتهم من قهر قبطان لم يكن يرحم.
سعوا حتى أدركوا الشاطئ. فمضيت و قد لملمت أوراقي دون أن تفارقني صورتهم التي رسمها لهم خيالي و هم يغنون و يتسابقون في فرح و همة ساعين لملاحقة الزمن خشية أن يغادرهم إلى سواهم مرة أخرى. ظننت أن الحكايا قد طالت خواتمها. و أن بدء الحياة لهؤلاء الصيادين قد كُتب بنهاية قصة ليست للأطفال. لكن و منذ تلك اللحظة لم يتوقف الطرق على بابي، و لم يتوقف هاتفي الداخلي عن المناداة، و كل منادٍ و أيما طارق أراد أن يبلغني بأنه قد يكون للحكايا خواتم أخرى. حاولت إقناع من طالني منهم بما كان يعتمل في صدري بأن النهاية باتت و أن الخواتم قد بانت، و إن ما ترونه و سترونه هو بداية حكاية البِشر و الخير، لكن نفر و نفر منهم أصروا على أن القصة لم تنتهي. بل إن البعض ذهب إلى أن القصة يجب أن تُكتب من جديد وفقاً لما جد من واقع الحال و ما قد يجد من أحوال، بل لم يستثنوا عودة القبطان ليقود السفينة من جديد عبر ظلمات البحر اللجي. لكن هؤلاء كفوا عما هم فيه بضحى رابع أو خامس يوم عندما و جدوا جثة القبطان مرمية على الشاطئ، و قد طالها أثر فعل البحر الهائج الذي أذاقه الويلات قبل و بعد مصرعه ، و كأني به كان يكافئ صياديه بما صبروا. اقتنع الجميع بأن الزمن لن يرجع من جديد إلى الوراء، لكنهم اتفقوا على أن الحكاية لم تكتمل، و أن فيها فصولاً لما تُنجز بعد.
في صباح اليوم التالي و بعدما توارت جثة القبطان دون أن يكلف أحد منهم عناء السؤال عنها، عمد الصيادون إلى ديدنهم الذي تواتروه منذ أيام و هو  لملمة أجزاء سفينتهم المعطوبة، لعلهم يفلحون في إصلاحها ليعجلوا بإعادتها لعرض البحر .
لو سُخر لك أن تقف معهم في تلك اللحظة فلن تحتاج لكثير وقت لتدرك اتفاقهم في المراد و الهدف و هو الخير لكل الصيادين. و لن تحتاج كثير وقت أيضاً لتدرك مدى خلافهم حول سبيل الوصول لهذا الخير. فمنهم من رأى إن الخير في بيع السفينة ليستفيد الصيادين من عائد بيعها، والبعض تحجج بمبيت أهله في العراء و اختار أن يُجعل من خشب السفينة بيوتاً للصيادين، و حتى أولئك الذين اتفقوا على خيٌرة إعادة بناء السفينة، اختلفوا فيما الخير . أيصلحونها بأنفسهم أم يعتمدون على سواهم، و هؤلاء الذين اختاروا الاعتماد على سواهم اختلفوا في سداد أجور من يستخدمونهم لهذا العمل، هل سيجعلون منهم شركاء في السفينة أم يدفعون لهم مالاً لقاء عملهم. فإذا فضلوا الدفع لهم فمن أين سيدفعون، هل يقترضون؟ و هل يرتضوا شروط مقرضهم التي قد تخالف ما يعتقدون. مشارب عدة ستلقاها و آراء أكثر ستسمعها و أنت بينهم. الخلاف بينها واضح و التضارب بين، فلا يكاد يجمعهم سوى فرحهم و حلمهم بغدٍ أفضل.
اختلفوا حتى فيمن ينال شرف المشاركة في إصلاح السفينة، فاستبعدوا هذا لأنه كان يُمسك سوط القبطان، واستبعدوا آخر كان يسترق السمع و ينقل آهاتهم للقبطان، و أقصوا هذا و ذاك و ذاك. و كانت حجتهم جلية، لأن هؤلاء أزلام القبطان، و لن يتوانوا لحظة عن دس السحر بين ألواح السفينة لتغرق. حتى قبل أن تلامس البحر من جديد اختلفوا على من سيركب السفينة، فسارع كل يقدم حجته لطلب المقدمة، غير هيابين لنظرات الحسرة في عيون أصدقائهم من الصيادين، و نظرات شماتة في عيون آخرين.
اقترح بعضهم أن يختاروا من بينهم من يكون قبطاناً يعطيهم الأمر و ينظم الأدوار بينهم لعل إنجاز العمل يكون أسرع و أدق، إلا أنهم اتفقوا جميعاً إن قبطاناً جديداً لاشك تجعله الأيام ذات قبطانهم القديم، ذلك أن في دفة السفينة سحر مدفون هو سحر الجبروت الذي لا ينفك يغشى من يقف وراء هذه الدفة.
خلال الأيام الأولى كانوا يعملون بجد في وفاق لا يكاد يطاله خلاف. أما اليوم فهم ما انفكوا يعملون ولكن في خلاف و شقاق دائمين لا تكاد تتبين من ورائهما شيء من وفاق، فقد تباينت الآراء و تعددت و كثرت مشارب الفكر لديهم.
كان بينهم شيخ جليل يستبقهم كل يوم إلى السفينة فيجمع بعضاً من ألواحها الصغيرة و يربطها بحبل، و ما أن يجتمع إليه الصيادين حتى يقف في وسطهم يشحذ هممهم و يدعوهم للتعاضد و التصالح مدللاً بكومة العصي على فضل التعاضد و اللحمة لخير الجميع.
ذات صباح داوم الشيخ ديدنه ذاك، لكنه و لما التفت إلى كومة العصي لم يجدها، إذ أخذها أحد الصيادين ليستوقد بها ناراً لعلها تُذهب عنه لسعات صباح شتاء قارس و برد غدٍ لم تتضح معالمه بعد. بعض الصيادين واصلوا تحلقهم حول الشيخ و استماعهم إليه مجاملة. و بعضاً آخر انفضوا عنه معتقدين بطلان حجته بعدما فقد أدواته.
كانوا يلاحظون كل صباح انسياب بعض ألواح السفينة في البحر ، فتصيب الحسرة أنفسهم و يتأسفون على كل يوم يمضي لا يستطيعون فيه ممارسة فعل الصيد. كانوا مدركين لخلافاتهم و شقاقهم، و عارفين حق المعرفة بالمتسلقين الذين يسعون لمصالحهم غير آبهين و لا هيابين و لا مستحين، و إن حُصل ما يؤتونه من مصالح على حساب سفينتهم التي تهمهم جميعاً.
يدركون أن سفينتهم كنز ثمين يستحق المحافظة عليه، يدركون أن الشتاء قريب، و في الشتاء تتكون الأمواج العاتية، التي قد تطال سفينتهم لتجرفها عبر متاهات البحر الهائج دونما مُستقر.
كانوا يتعجلون الانتهاء من إصلاح سفينتهم ليس لأنها مصدر رزقهم و حسب. بل لأن انطلاق سفينتهم من جديد فيه الخلاص من كل النزاعات و الخلافات السائدة اليوم.
قد يتبع....

ليست هناك تعليقات: